قهوة مع شيخ كبير
""""""""""""""""
دعوته على أعتاب مقهى ...في وقار لارتشاف فنجان ..ولم تكن دعوتي تخلو من بعض الحيلة والمكر ..فقد وددت استدراجه إلى حديث ذي شجون عن ماضيه المتخم المشحون ....
رحب بالفكرة وراح يمعن النظر في هندامي ومظهري رغم أنه يعرفني جيدا ...وحين تيقن مما يدعو للريبة أنني في مظهر لائق ...بادرني بسؤال قطع علي وصلة ترحيبي تلك .... ورد علي كيدي ومكري ..
ونحن عند باب المقهى قال في نبرة جس واستقراء:
_ ايه ...ماذا ستحكي لنا ؟
تلعثمت وتأتأت مبتسما ...
_ وماذا بحوزتي أنا لأحدثك عنه ؟
أريد أن تحدثني أنت ..
جلس على الكرسي وأشار بيده إلى النادل ثم لف قميصه فوق ذراعه ...
ولم أشعر بتلك القطعة النقدية آنفا وهو يمسك بها بين أنامله ...
قلت في إلحاح شديد :
_ أنت ضيفي فلن تدفع اليوم فلسا ..
وقف النادل منتظرا مطلبه ...وهو يتأمل بطاقة في يده .. ثم هز رأسه متثاقلا وقال :
_ قهوة مضغوطة بني ..
طلبتُ شايا وسبقته إلى دفع الثمن ...ثم تأملت تلك البطاقة التي كانت بيده ..فإذ بها بطاقة منخرط في جيش التحرير ..أخرجها ضمن أوراق يريد البعض منها ..ثم قال في حزم :
_املأ هذا الصك ..
نظرت إلى تلك الورقة فوجدتها صكا بريديا يخص ابنه ..
كتبت مبلغا زهيدا على الورقة لفائدته ..
ثم سلمت له الصك ....قائلا :
_ أليس لديك راتب من الوزارة..؟
نظر إلي في صمت مطبق حتى خشيت انصرافه. ثم مد يده يمسك فنجان القهوة وقد بدت على ذراعه الضخم العريض رعشة خفيفة ...
وبدوري تناولت كوب الشاي في عجالة ..ورحت ألح في سؤالي ذاك ...
استغرب من مطلبي قبل أن يجيبني :
_ ليس لدي أي دخل سوى منحة الشيخوخة تلك
أثار هذا الرد حفيظتي فقلت له :
_ وما تلك البطاقة إذن ...؟
رد علي والفنجان يصل إلى فيه :
_ مجرد بطاقة لم تفدني في شيء مطلقا..
جن جنوني وكدت أدلق كوب الشاي ذاك ...وأردفت قائلا له وقد علا صوتي قليلا:
ألست مجاهدا ...؟ ألم تنل حقك كغيرك ؟
نظر إلي وفي نظرته لوم وعتاب وأشار لي بيده أن أهدأ ثم قال بعد رشفة قهوة عميقة أغمض خلالها عينينه:
_ كنت في الجبل لمدة تزيد عن العامين في كتيبة يقودها فلان ....
قاطعته : أعرفه ...بل سمعت عنه ..ثم ماذا ؟
أخرج من جيبه العميق سيجارا غريبا وعلبة ثقاب وراح يشعله بهوادة ....بينما كنت أتململ في مكاني أطلب توضيحا ...
أخذ منه نفسا حتى بدت جذوته ...ثم راح ينفث دخانه خلفه ...وأنا أنتظر أن يكمل ما بدأه في لهفة وحيرة ...
أردف يسترسل في حديثة وحزن عميق يتوارى خلف نظراته وزفراته ...
_ بعدما أحرق المستعمر بيتي وأخذ أنعامي .... وحالما تحررت من السجن التحقت بجيش التحرير ...وكنت في الأشهر الأولى أعزلا ..أساعد المجاهدين على نقل المؤن والذخيرة والجرحى ...ثم أعطاني القائد سلاحا رشاشا ..
لكن بعد أيام إذ كنا على مشارف الحدود ...ظهرت على جلدي دمامل وحب أحمر سببا لي حرارة عالية وغثيانا واسهالا ...
واستمرت تلك الحالة أسبوعا كاملا ...
كدت اطلب من كل الحضور الصمت والانصات
ورحت التفت إليهم كأن أمره يعنيهم كلهم ...
قلت بعد ذلك :
_ ثم ماذا جرى يا عم ؟
قال في تؤدة وأناة :
_ عدت إلى باديتي سقيما وبقيت على تلك الحال لأشهر عديدة بين الحياة والموت .. أمني النفس أن أعود إلى الكتيبة ثانية ....
وجربت كل الأعشاب الطبية الممكنة ...ولم أشف حتى مر حول كامل ...خفقت خلاله راية البلاد معلنة عن حريته ...
قلت مخففا :
_ الحمد لله على نعمة الاستقلال..
ابتسم على مضض ثم اعتدل في جلسته قائلا :
_ بعثرت أوراقي ثم لممتها ...وأخذت منها ما كنت أظنه كفيل بمنحي حقوقي ...
خرج منه زفير كأنه زئير..ثم عبس وتغيرت ملامحه وابيضت شفتاه ...ونظر إلي وقد اقترنا حاجباه ...
أوجست حينها خيفة أن يغمى عليه ...فبادرته قائلا :
_ من قصدت بملفك ذاك ؟
_ ومن يكون ؟ ....ذاك الوغد الذي أنكر علي تواجدي ضمن كتيبته بحجة أنه لم يذكرني ...
قلت له في غيظ شديد :
_وما شأن تلك البطاقة التي كانت بيمناك..؟
تأفف مطولا واردف موضحا :
_ كان لزاما أن أحضر له استمارة من وغد آخر
_ وهل أحضرتها ؟ عقبت بسرعة ..
أكمل يرتشف قهوته حتى ظننت أنه أقفل الموضوع وختمه بصمته ...
لم أشأ أن أزيد عليه من وابل أسئلتي ...فرحت أرتشف من كوب الشاي جرعات...
ربت على كتفي قائلا والدمع قد أسرته العزة والأنفة في مقلتيه :
_قصدت فلانا ليزودني باستمارة وهو على علم تام بمرضي وحتى معاناتي بعد الاستقلال من عوز وفاقة ...لكنه طلب مقابل ذلك مبلغا بدا حينها عصيا ...وقد علمت أنه سلَّم مثلها لمن لم يكن يوما في الجبل ..بل لم يسمح عمره بالتجنيد مطلقا...
قلت والألم يعصرني :
_ وماذا فعلت بعدها ..؟
قال ساخطا ضاحكا :
_ مزقت ذاك الملف واحتفظت بهذه البطاقة للذكرى فقط ...
قام بعدها شاكرا وقد اشتف ما بقي في الفنجان من قهوة ...وقال :
_ بلغ سلامي إلى والدك .
أحسست يومها أنني أثرت غيظه وقلبت مواجعه ومآسيه ...وأنا الذي كنت أود الاستفادة من تجاربه وخلاصة ماضيه ....
مقدير إبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق