من عينيك نوتاتي ..
.
أبثّ العشق للنّايات أوجعها
و من عينيك رغم البعد نوتاتي
.
مقاماتي لهيب الشوق ينفثها
فكم تشجي أنيس الليل آهاتي
لقد بُحّتْ مقامات الألى سبقوا
و لم تشف الجوى إلا مقاماتي
لك الأشعار من مزع منضّدة
رواجف أحرفي حمراء أبياتي
أيا فينوس قد أبدعتِ ملحمة
تعيد العشق طهرا وجه غيمات
يرى غيري الهوى جسدا يهيم به
و ما عشقي لغير الرّوح مولاتي
أنا الصّب العفيف و شرعتي شمس
تنير الدّرب تجلي وقع خطواتي
بهاء العشق أن نُحْيي طفولتنا
ضحى نجري معا خلف الفراشات
شاعر بارع ، ملتزم له الكثير من القصائد التي نافح فيها عن العروبة وتغنى ببلدانها
كما أشار إلى قضايا اجتماعية هامة بأسلوب مميز بالحرف والصورة وحتى الوزن .
كتب شعر التفعيلة كما اعتاد الإبحار ببراعة في البحور الخليلية .
اخترت لكم هذا القصيدة الغزلية لأن الغزل من أحب الأغراض الشعرية لي وللكثيرين ،ولأنها تعد من أقصر قصائد الشاعر كي يتثنى لكم دراستها بيسر .
نحن أمام نفحة وجدانية ذاتية ارتدت ثوب الغزل العفيف وجارت القدماء في خوض غمار بحر من بحور الخليل وهو البحر الوافر التام والذي لم يعتد عليه الكثيرون .
إذا نحن أمام قصيدة عمودية تتبع من حيث الشكل الاتباعية الجديدة ، بينما نجد أنها تقارب الرومانسية في أمور عدة أولها ظهور ذاتية الشاعر بوضوح وعدم مخاطبة العقل وإنما الجنوح للخيال .
العنوان الذي اختاره الشاعر ( من عينيك نوتاتي ) مقتطف من أحد أبيات القصيدة فيه تقديم وتأخير والغاية إظهار أثر عيني المحبوبة على شاعرنا ، فهو يستقي شعره منهما ، ولا ننسى ان التقديم والتأخير يحفز الأذهان لمعرفة السبب .
البعض قد يقول الحبيبة بعيدة فأنى لشاعرنا رؤية عينيها ، لكن العاشق بحق يستطيع استحضار محبوبه بكل تفاصيله ، ثم إن العينين كانتا دائما من أبرز ما يتغزل به الشعراء ، فالشاعر يغرف من عيني حبيبته أجمل الكلمات والألحان .
وعليه فالعنوان معبر وجميل وملائم للغزل .
القصيدة وليدة اختلاجات عاطفية ذاتية
غلب عليه شعور الحب والشوق في معظم الأبيات .
كمانلمح افتخار الشاعر بشعره في البيتين الثالث والرابع وحتى الخامس ، كما نجد مشاعر الحب العارم الصادق الذي صرح به الشاعر تعيد العشق طهرا ، أنا الصب العفيف ، وماعشقي لغير الروح ...
كما نجد مشاعر الألم واضحة والسبب الجوى وقد تبدت من البيت الأول
أبث العشق للنايات أوجعها ،
فكم تشجي أنيس الليل آهاتي
من سمات العاطفة الواضحة العمق والصدق والقوة ، ولعل ألفاظا مثل ( أوجعها ، لهيب ، تشجي ، مولاتي )
تثبت ذلك .
إضافة إلى استخدام ضمير المتكلم أنا ، وياء المتكلم في مواضع عديدة .
قلنا منذ البداية شاعرنا ركب أمواج بحر بخليلي ليس مطروقا بكثرة وهو الوافر التام الذي يقوم على تكرار تفعيلة واحدة وهي مفاعلتن ثلاث مرات في الشطر الواحد ، وقد إحسن ركوب الموج فجاءت أبياته متموجة رشيقة تسعد وتطرب الأذن لتدفق موسيقاها المتناسق .
والتزم كعادة القدماء حرف روي واحد التاء المكسورة او المشبعة والتي ألحقها
بياء المتكلم في معظم الأبيات ، ولياء المتكلم سحرها وصدقها ورقتها .
كما نجد جرسا لطيفا من تكرار الأحرف المتشابهة وخصوصا الهامسة منها .
ومن حسن التقسيم كما في قوله :
رواجف أحرفي ، حمراء أبياتي
أما بالنسبة للناحية الفنية لأسلوب الشاعر :
فنجد أولا أن شاعرنا اختار لغة فصيحة مشرقة أي واضحة لم ينحِ نحو الألفظ الغريبة الحوشية او المستهجنة أوغير المألوفة ، كما نجد أنه استخدم اللفظ الرقيق وهذا مناسب لغرضه مثل :
أنيس ، شمس ، الفراشات ، النايات ، نوتاتي ...
و نلمح بعض الألفاظ الجزلة
وأحسن اختيار ألفاظا مناسبة للحب او الغزل من مثل : العشق ، عينيك ،الشوق ، لهيب ، فينوس ، مولاتي ، الصب ...
كما برع في انتقاء المصاحب اللغوي :
بحت مقامات ، رواجف أحرفي ، لهيب الشوق ،، الصب العفيف ...
التراكيب متينة السبك وإن لجأ في بعضها للتأخير والتقديم مثل :
من عينيك نوتاتي ، لك الأشعار، رواجف أحرفي ، حمراء أبياتي
وهذه جمل اسمية ، الغاية من التقديم فيها إبراز أهمية المتقدم ولفت الانتباه وتحفيز الذهن .
اتكأ شاعرنا على الأسلوب الخبري ولعل هذا مرده رغبته في تصوير حبه ومعاناته ونظرته السامية للحب ، أراد أن يخبر أكثر من رغبته في إظهار انفعاله .
نلمح الأسلوب الإنشائي ممثلا
بأسلوب النداء : أيا فينوس والنداء هنا باستخدام إحدى أدوات النداء للبعيد ،وليس بخفي على أحد أن فينوس
رمز لربة العشق والحسن والشهوة والجمال عن اليونانين ، وهي أسطورة قديمة ، والغاية من النداء هنا التعجب غير المباشر .
ونجد النداء لأداة نداء محذوفة في قوله : مولاتي والغاية هنا الإشارة للمحبوبة وليس النداء ، إضافة للتودد والمبالغة .
أما قوله :
فكم تشجي أنيس الليل آهاتي
كم هنا خبرية تكثيرية وليست استفهاميه فهو يريد تصوير كثرة آهاته وكثرة ما تلقيه من شجن على أنيس الليل ، أي تصوير المعاناة .
وهنا عبرت كم عن انفعال الشاعر وإن لم يكن الأسلوب إنشائيا .
استخدم أسلوب الاستثناء المنفي في موضعين
ولم تشف الجوى إلا مقاماتي
وما عشقي لغير الروح مولاتي
حيث أبرز قيمة مقاماته بعد أداة الحصر إلا .
وقصر عشقه على الروح بعد غير .
وهذه نقاط إيجابية تحسب للشاعر في
إبراز المعنى و تقويته وتجميله .
أما الصور والأخيلة فقد أغنى بها الشاعر نصه وجاءت لتزيد النص جمالا والمعنى توضيحا
أبث العشق للنايات : استعارة مكنية
أوجعها : يقصد أيضا النايات ، كذلك استعارة مكنية .
جمالهما في التشخيص ، ألقى صفات بشرية على الجماد ، أو أنسن غير الحي .
نوتاتي : كناية عن موصوف وهو شعره
مقاماتي لهيب الشوق : تشبيه بليغ
أيضا ( لهيب الشوق ) : تشبيه بليغ إضافي
وقلنا مرارا التشبيه البليغ ما حذفت أداته ووجه الشبه وهو من أبلع أنواع التشبيه لمساواتها بين المشبه والمشبه به و هذه المبالغة لها جماليتها .
بحت مقامات : استعارة مكنية
والغاية من الصورة هنا التقبيح
لم تشف الجوى إلا مقاماتي : استعارة مكنية
والغاية من الصورة الاستحسان
وكلتاهما تحمل المبالغة في المعنى .
رواجف أحرفي : كناية عن الاضطراب
حمراء أبياتي : كناية عن الوجع والألم
ومعروف الأحمر لون الدم
أيا فينوس : رمز لآلهة العشق والشهوة
وبسبب مقتل حبيبها أدونيس آية البشرية في الجمال والشباب في الصيد وبعد أن رفض الانصياع لشهواتها ، كان هذا سببا في انتصار حب الروح على حب الجسد ، حيث اعتزلت فينوس العالم لتعيش على ذكرى من أحبته حد الجنون .
استخدام الشاعر لهذا الرمز كان موفقا لأنه فيما بعد أشار إلى أنه ينظر للحب على أنه حب للروح لا للجسد .
مولاتي : استعارة تصريحية ، المحبوبة
مقاماتي : كناية عن شعره
ملحمة : رمز لرائعة شكسبير ، مسرحية شعرية مطولة بعنوان فينوس وأدونيس
الهوى جسد : تشبيه بليغ
شرعتي شمس : تشبيه بليغ
أكد الشاعر على أن حبه عفيف واضح كالشمس ، وأراد أن يعود به إلى براءة الأطفال .
نهاية ساحرة تدل على سمو بالفكر و المشاعر ، ودعوات لإحياء هذا الحب بعيدا عن ابتذال حب الجسد .
وهذه نقطة إيجابية أيضا لشاعرنا .
من الملاحظ أن شاعرنا كتب بعفوية ، دون تصنع وهذا واضح من عدم اهتمامه بالصنعة البديعية التي ظهرت فقط في طباق الإيجاب : الجسد ، الروح
وحسن التقسيم في موضع أشرت إليه
شاعرنا بالفعل مميز في طرحه لأفكاره بلغة مشرقة لها عمقها ودلالاتها .
بالتأكيد لو اهتم الشاعر بالحليات اللفظية والمحسنات المعنوية و لو مال للأسلوب الإنشائي لكان هذا أكثر تأثيرا .
لكن كما قلت العفوية والصدق هما وراء ذلك .
تحيتي ليراع ساحر الحرف ، راقٍ في مساعيه ومراميه .
تقبلوا مني شاعرنا محمد الفضيل جقاوة هذه الدراسة المتواضعة لقصيدتكم مع باقة من ياسمين دمشق .محمد الفضيل جقاوة
ولكل من رافقنا في برنامجكم قصيدة والناقد أقول : عمتم مساء يا إخوتي وأخواتي .
رنا محمود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق