الخميس، 29 يوليو 2021

الله هو الحب.. للمبدعة فاطمة جعفر

اللهُ هـوَ الـحب
 

توفيتُ وحلَّتْ رحمةُ اللهِ عليّ، أكتبُ لكَ من عالمِ البرزخِ وحولي منكرٌ ونكير، يسألاني عن ربي وديني وكتابي وعنك، وحيدة وكل الجوارح في جسدي شهود! بعد أن حان الحساب وآن العقاب، فإليكَ ما يخصُّكَ من النتيجةِ والجواب:
أتخمَني يا سيدي الملاكَ من عبث الحب ومن كلامه المعسول، بعد أن جعلتُه زينةَ الحياةِ الدُّنيا وتغافلتُ عن الباقياتِ الصالحات، وأشبعَني من الشّكوى والنُّواحِ والحزنِ والأنين، ولم يكرِمني مرّةً واحدةً بلحنٍ سعيدٍ أو حرفٍ طروب، أسرفتُ عمري أشعلُ من أجله الأحلام، وأحملهُ على رقاقةِ عقلٍ مترنّحٍ وشغافِ قلبٍ مريض، فما عاد مسرحُ الفؤادِ يتّسعُ للمزيد من العروضِ ولا الذَّاكرةُ تحتملُ فداحةَ الأساطير، كان العمرُ يتقصّفُ ويتكّسرُ ويتراجعُ ويتناقصُ بانبهار، وأوليفيا طفلةً لا تعي ما تفعل، تحضرُ لأمّها بدلًا من الثّيابِ التي طلبَتْها غطاءَ الفراش، وتضعُ صحنَ الزَّعترِ في الثّلاجة، وتستبدلُ السُّكر بالملحِ في فنجانِ قهوةِ الجارة، تخدعُها بعينينِ محدّقتينِ ورأس مهتزِّ يوهمُها بأنها مهتمّة لما تسرده من قصصٍ فارغةٍ وحكايات، 
عقلها يفكر فيه، وقلبها معه صبح مساء، تُخطئُ في حسابِ الوقت، ولا تعلمُ الثّانيةَ عشرَ صباحًا من الثّانيةِ عشرَ حينَ حلولِ الليل، في السهر حاضرٌ والصباح منشغل به، تحبو نحوَ أمّها بشوقٍ ساعة الانكسار وتحبو نحوه حين يروق المزاج، لحظة من فضلكَ يا ملاك، إنّها أمّي قد سمعَت صرخَتي دونَ صوتٍ، أناظرُها من قبري بقلبٍ واجفٍ وعينينِ شاخصتين، 
آهٍ يا ربّاه، لقد خلَعَتْ صفَّ أسنانِها الأمام،  وحُفرَتْ على خدّيها بعضُ التَّجاعيد، 
ردَّني لها أخبرُها أنّها ما زالت ملائكيةَ الملامح حتى لو صارت بلا أسنان، لكنني ما عدتُ فراشة زاهية الألوان بل خفاشًا أسودَ بجناحين، إنه سوء السلوك، ينعكس على الجسد والملمح والقبول، أعِدني أركعُ عندَ قدميها يا الله، أفضفضُ لها وأبكي وأتوسّلُ وأعتذر، 
أراها تصبُّ الماءَ وتذرفُ الدَّمعَ على تربتي الرَّطبة، وتزرع فوق قبري جوريّةً بيضاء وتدعو لي،
ها قد حلَّتْ عليَّ رحمة جديدة وخفَّ عنّي العذاب، 
أتابعُ للملائكةِ البوح:
أتراها الوعودُ الكاذبةُ تجعلُنا مترنّحينَ 
تحملُنا وتلفُّنا وتلوِّحُ بنا ثم تلقينا في حقلِ شوك! 
تبًّا للأحلامِ الورديّة والأمنيات المخاتِلة، للعهودِ والكذبِ والوهمِ والانتظار، وسحقًا لكلّ شيء، 
أردتُ ذاتَ بردٍ مصدرًا ينشرُ دفئًا صادقًا في حنايا الرّوح فلُذتُ له حينا وحينا للمدفئةِ وموقدِ النار، ونسيتُ أنّ القرآن جعلَ من الجنّة دارَ قرار، 
وكما كلِّ مرةٍ وضعتُ عقلي داخلَ جيبي وراحتْ الأفكارُ تسرحُ في المراعي والسهول، ثم صحوتُ على مازوتٍ ينشرُ رائحتَه في المكانِ ويطفرُ على الأرض ويسيل بكبرياء، لمتُني وقتَها لأنّني فرطتُ بالدّفء وعبثتُ ببرنامجِ تقنينِ الوقودِ لكنني ما وبَّختُني يومًا على تفريطي بركعات الفجر وعبثي في الصّلاة، 
تبّا لي من مبذّرة لا أحسنُ التّصرف وأستحقُّ العقاب، 
إنني وسطَ ساحةِ حرب مرميّةٌ على قارعةِ رصيفٍ عتيقٍ، تدهسُني أحذيةُ العابرين ويلوكني الانتظار بضراوةٍ بين فكّيه، وتقطعُ رأسي شاحناتُ الشّعور المحمّلةٍ بالهمومِ والأثقال، وجيوشٌ متصارعةٌ من الكريّات الحمر والبيضِ على دوامِ البقاء، يلتهمُ عيني الشّرود كأنّهُ في صيام ويتغذّى القلقُ على إسفنجِ قلبي بفيهٍ مفجوع ودودُ الحيرةِ يعيثُ في عقلي فسادا، 
يشربُ دمعي ويتمزمَزُ ويتقهقهُ ساخرًا ويضحكُ عليّ،
نسيتُ وصيةَ والدي بتلاوةِ سورة طه وغابَ عن ذهني حفظُ سورةِ الملك، لجأتُ إلى الله عندَ الشدّةِ ونسيتُه في الرّخاء، إنني كاذبةٌ يا ملائكةَ الحساب وكلُّنا كاذبين ونستحقُّ العذاب، كان باستطاعتِنا فعل أيّ شيء لأنّنا لم نُخلقْ عاجزين، بمقدرتنا التمرُّد على خديعة الإنسان، 
بمقدرتنا عِصيان أوامر الشيطان، 
بمقدرتنا الصراخ والبوح والاعتراض أو الهروب، 
نصغّر الدّنيا ونوسعُها على مزاجِنا
نزهدُ ونتصوّفُ وربما التهمناها طامعين بالمزيدِ، 
باستطاعتنا الإيمانُ والتصديق، لكننا لا آمنّا ولا صدًَّقنا وبقينا بلا موقفٍ ولا فعل سوى الكلامِ والأحلام.
أعطبتُ أصابعي في عدِّ الأيامِ والسّاعاتِ وخلعتُ أسنانَ الوقتِ ومزَّقتُ قمصانَ الشُّوق، اختبرتُ الحرَّ والحامضَ والمالحَ والحلو، واستهلكتُ كلَّ وقودٍ يضيءُ دربي إليه، أوصيتُ الخيّاطَ بتقصيرِ المسافةِ بيننا فضحكَ عليّ،والبنّاء بسدِّ شرخِ الفراقِ فسخرَ منّي، 
طلبتُ من الطبيبِ دواءً يوقفُ التّفكيرَ فساقَني للجنون، وها أنا ذا أمامَكم اليومَ عاصية ومبذّرة
ومجرمة ومجنونة ومهملةً وعابثة، 
وهو ما زال مكانَه يندُب حظّه ويبكي كالنّساءِ الفارغات، اللواتي يخفنَ على تسريحةِ شعرهن من هبّة هواء ويُقمن عزاءَ على ظفرهنَّ المرحوم.

كتبتُ رسالتي قبلَ أن أسلم روحي للملائِكةِ وجسَدي للنَّوم، ستصلكَ ممزَّقةً أو مُشظَّاة، أو مبلّلةً برائحةِ الموتِ وربّما فارغةً وغيرَ واضحةِ الحروفْ لكنّها حتمًا ستُظهِر لكَ عبارةً واحدةً قد ملأتُ بها السُّطور، 
استبدلتُ فيها يومَ الجزاءِ ذاك بتوبةٍ عنك:
(ابقَ مكانكَ ولا تعود). 
تعلَمُ أنّني الآنَ مكبّلةً بالسّلاسلِ والحديدِ مساقةً بسببكَ إلى الجحيم، لكنّكَ لا تعلمُ أنّني قويّة، ويمكنُني العودة من بين الرّماد، فها قد أحكمتُ إغلاقَ قلبي بسبعةِ أقفال ورقّعتُ ثقبَ السّماءِ بقطعةٍ صلبةٍ من النّسيان كي لا أراك، فككتُ وثاقَ القلمِ عمدًا عن أصابعي وتركتُ الورقةَ حرّةً للهواء.

أوليفيا التي تشهد أن لا معشوق إلا الله. 

#فاطمة_جعفر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق