نبض الحنين _1_
................
كان جالساً على طاولته ودخان سيجارته الذي امتزج بأنفاسه يطوف في أرجاء المقهى مشكلاً غيمةً تحمل في أعماقها آلام عمرٍ وآهااات صامتة ، وقهوته أمامه تترقب حتفها
كلما تأمل ذلك الركن قرب النافذة وذلك الكرسي الذي يقابله على الطاولة ، أخذ نفساً عميقاً أحرق معه سيجارته ليتناول أخرى ويشعلها من بقاياها .
أخذه الحنين إليها يوم التقيا صدفةً هنا في تلك الليلة
كانت السماء تثلج والبرد يخترق جدران المقهى ويرتسم على كل الوجوه .
كانت تجلس في ركن خفيِّ قرب النافذة تتأمل تلك الذرات البيضاء وهي ترسم أجمل صور الطبيعة ودمعاتٌ دافئة تتلألأ على وجنتيها.
تحتسي كوب الشاي الساخن ودخان أنفاسها مع كل زفيرٍ يفرغ ذلك البرود من أعماقها .
وكعادته هو جالسٌ وسحابة الدخان تكاد تخفيه وقهوته بيده يرشفها كأنها الدواء لكل داء.
لمحها جالسةً في ركنهاوذاك البريق في عينيها يغني عن الكلام.
تأملها كيف تمسك كوب الشاي بكلتا يديها كأنها تتقصد أن تسرق حرارته لتنعم ببعض الدفء.
قرر الاقتراب منها وبدون رادعٍ اقترب منها ودعاها لتشاركه الطاولة
رفعت رأسها والتفتت إليه وبصوتٍ خجولٍ قالت :
أيهمك أن أشاركك الجلوس....؟!!
لما اخترتني أنا من بينهن...؟!!!
ومالذي دفع بك لهذا الطلب ...؟
صمت قليلاً وبدون تردد قال:
يهمني أن تشاركني وحدتي من باتت وحيدةً والصمت قد نال منها.
اخترتك لأني رأيت فيكِ نصفي الأخر فالشبه بيننا ظاهرٌ وقد نال منكِ الألم فتساقطت دموعك ونالت مني الوحدة فتسرَّبت آمالي.
مادفعني إليكِ هو أن أنتشل تلك الآلام منك وأغرس مكانها أملاً لعلِّ أجد في ذلك راحتي .
عندها استجابت لطلبه ورافقته لطاولته وجلست قبالته لم تتفوه بكلمة .
نظرت في عينيه وجدت فيهما ألماً يأبى الخروج صرخة طفلٍ ينادي أمه وصرخة محبٍ يبحث عن الحبيبة وصرخة وحيدٍ هدته الغربة.
تأمل صمتها وأطال النظر في عينيها وجد مدينةً من الحزن وليلاً أسوداً يخيِّم عليها وكأن الشمس قد أفِلت ولن تعود يوماً .
لمح لمعةً في عينيها كأن النجوم قد همَّت للرحيل ، مع كل رمشةٍ تسقط نجمة كأن تلك النجوم المتساقطة أشخاص من قلة الوفاء وقعت أقنعتهم .
وجد مركباً تائهاً في عرض البحر تأخذه الأمواج وتقلِّبه يُمنةً ويسارا يبحث عن منارةٍ تهديه الى السبيل ؛ وقرأ في عينيها مأساة أنثى من ظلم أشباه الرجال عانت ،تحاصرها شهواتهم وتجبرها على الهروب من ركنٍ لأخر .
أعاد طلب القهوة له ولها علَّ روحها تسكن وببعض كلماتٍ تنطق .
أشعل سيجارته وعادت تلك السحابة من الدخان لتخيِّم عليهما قال لها بعد طول صمت
مابال تلك الصرخة الصامتة التي أطلقتها عيناكِ ..؟
وما ذاك الحزن المقيم فيهما ...؟
وما هذا الضياع الذي تعانينه..؟!!
هزت رأسها وقالت له كأنك قرأت حالتي وسمعت صرختي وهاأنت ذا تحاول إمساك يدي وانتشالي من حزني وضياعي.
أمَّا الصرخة فهي ساكنةٌ وقابعةٌ في قلبي أحاول اسكاتها وإخفائها تأبى عيناي إلا إظهارها.
هي صرخة أنثى أحبت بصدق وهبت مشاعرها وكتلة إحساسها لمن استغلَّ الحبَّ ولم يعرف معناه يوماً .
صرخةٌ هي ضد الحب ذاته الحب الذي شوهته الغرائز والغايات .
عينايا اللتان كانتا تفيضان حباً وأملاً
سكن الحزن فيهما واستقرَّ وبتُّ تائهةً من أثر الخيانة .
سُلبت مني حريتي وأنوثتي باسم الحب وبتُّ مجرد جسد بلا روح دُفنت المشاعر حيث دفن الحب .
وحيدةٌ أنا ودمعي أخفيه تارة ويفضحني تارةً
أبكي نفسي أم أبكي الحب مامن عزاءٍ لحالي إلا أنا وما من مُشتكى إلا لله.
نظرت إلى سيجارته وقالت له
وأنت أيها الغريب مابالك كأنك تحرقها انتقاماً..؟
وتتلذذ هي في قتلك على مهل وكأن بينكما ثأرٌ قديم...؟!!!
تبسَّم قائلاً : لم أعد غريباً مذ عرفتك
كنت غريباً وحيداً قبل مجيئك قبل أن أرى ذاك البؤس في عينيكِ وتلك اللَّمعة وتلك الدمعة .
أظن أني أعرفك منذ قرونٍ مضت أضعتك يوماً ما وفي البحث عنكِ أضعت هويتي وعنواني
غريبٌ أنا بدونك وحيدٌ أنا من بعدك وسيجارتي كانت هي الوفية لي .
تعاهدنا على المضي معاً نحيا ونموت معاً أبث فيها الحياة بأنفاسي وأدنُ بها من الموت على مهل .
وجدتك أخيراً بعد أن نال منكِ الزمن وباعكِ أشباه الرجال.
هاتي إليَّ يدك لنسرق من الحياة حلوها ونرمي المرارة والمآسي جانباً ، وننعم ببعض السعادة والهناء وننسى ، لأنَّ في النسيان راحةٌ ونعش الحياة بطولها وعرضها .
أفرغي الحزن الذي في عينيكِ ساكنا ودعي الآلام جانباً إنَّ فيها تعاسةٌ وللأمل مدي ذراعيكِ .
تأملت عيناه وقالت أخاف وإنَّ خوفي مبررٌ
خوفٌ من الغدر الذي لم أشفَ من وقعه
قال لها إن العيون تفضح كل غادرٍ .
أطيلي النظر فيهما فإنكِ لن تبصري سوى الوفاء والمحبة الصادقة فالعين مرآةٌ لكل ناظر.
صمتت وأطالت النظر في عينه ثم استأذنته بالذهاب .
وقفت ومدت يدها لمصافحته لتشكره على الدعوة .
مدَّ يده وعندما تلاقت الأيادي براكين ثارت في قلبه ورمادٌ أُوقد في قلبها .
قالت وداعاً
قال إلى اللقاء
سأنتظرك كل يومٍ هاهنا إلى أن نلتقي ثانيةً ،
تبسمت وأدارت ظهرها وهمَّت بالخروج .
صمتَ وعيناه تبوح والشوق منهما يفيض
يراقب خطواتها نحوى الباب وكأنها تمشي على أوتار قلبه .
وعندما خرجت وأغلقت الباب خلفها كأن صفعةً نالت منه وكأن عاصفةً ثلجية سكنت جسده ، وكأنه حلمٌ راوده .
خرج مسرعاً في أثرها لكنها اختفت وكأن الثلج اغتصبها ونال منها .
لازال كل يومٍ يرتاد ذلك المقهى ويجلس على ذلك الكرسيِّ على نفس الطاولة لعلَّ الحنين إليه يعيدها .
كما كان وحيداً عاد وحيداً يلاحق طيفها.....
آزاد حمكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق