دراسة لقصيدة ( ما قيمة الشعر)
للشاعر الكبير عادل درهم الرعاشي
أمامنا اليوم مقطوعة شعريّة من ستة أبيات نظمت وفق أحد البحور الخليليّة واختار شاعرنا خوض عباب البسيط
ّالقصيدة إذا من الشّعر العموديّ التّقليدي والمدرسة المنتهجة المدرسة الكلاسيكيّة التي قلت لكم سابقاّ إنها امتازت بالحفاظ على محاكاة القدماء في شكل القصيدة من حيث ّالتزام نظام الشّطرين والقافية والتزام روي واحد إضافة إلى متانة التّراكيب وفخامة اللفظ .
وهذا كلّه نلمحه هنا
اختار شاعرنا عنوانا لمقطوعته ( ما قيمة الشعر )ولا يجهل أحدٌ ما لدور الاستفهام من تحفيز الأذهان لمعرفة الجواب ، لكن هل حقّا كان يريد الإجابة ؟ من الواضح أن شاعرنا مستاءٌ من واقع الشّعر الذي تغاضى عن نقل الأمور الهامة إلى ما عداها ، وكأنّي به هنا يقول ( لا قيمة للشعر ) إن لم يعتل قلمي ...
أي الاستفهام خرج هنا للنفي وهذه جمالية تضاف لهذا الأسلوب ، إذا العنوان حقق الغاية المرجوة منه تحفيز المتلقي و الإيحاء بفكرة النص .
لاشكّ أن الموضوع المثار هنا موضوع هام للغاية أفلا ينبغي للشّعر أن يكون هادفاّ بناء يحمل هموم وأوجاع الناس ، شاعرنا مشكورا أراد لشعره أن يكون هكذا ولذلك فالعاطفة إنسانية لكن ذاتية الشاعر واضحة فيها من خلال حديثه عن شعره واستخدامه ياء المتكلم بكثرة مثل ( قلمي ، علمي ، وجمي ، حرمي )
وغيرها ، وقد بدأ الشاعر قصيدته غاضبا منفعلا متسائلا عن فائدة الشعر إن لم يرتق بكتاباته وباسمه ويبدو الانفعال واضحاً في الأساليب الشرطية وتحديداً في البيت الثالث في جواب الشرط الجازم لا خير ...
ولكن التفاؤل والأمل والإصرار على قول الشعر حتى يؤدي رسالته في رفع القهر والحزن نجده في البيت الأخير وقد أحسن الشاعر ختم أبياته بهذا المعنى السامي والشعور الإنساني النبيل .
تلمح أيضا مشاعر الاعتزاز بالذات في معظم الأبيات فشاعرنا معتز بنفسه وبشعره وبقدرنه على إحداث التغيير .
العاطفة صادقة كانت تتأجج حينا وتخبو حينا وفق المعنى المراد .
الموسيقا : اختار شاعرنا البحر البسيط الممزوج( مستفعلن. فاعلن ، مستفعلن ، فعلن)
وقد جاء به تاماً والتزم قافية حرة وحرف روي هو الميم المكسورة أو المشبعة
لكن من الهنات العروضية
نجد في البيت للأول ( لم يعتل) التفعيلة هنا مستفعلُ وهي ليست من الجوازات المسموحة في حشو البسيط التام
فالجوازات المسموحة في الحشو التفعيلة مستفعلن هي ثلاث جوازات
( متفعلن ، مفتعلن ، متعلن )
ولو أن شاعرنا كتب ياء الفعل لم يعتلي ،
لصح الوزن ،لكن كان سيرتكب خطأ نحوياً وهو عدم حذف حرف العلة في المضارع المجزوم .
وفي البيت الرابع ( قلبي قد ) وهذه التفعيلة أيضاليست من جوازات حشو التام .
أبحر شاعرنا لسلام وخاض عباب اليسيط رغم بعض الرياح .
الناحية الفنية لأسلوب الشاعر : اعتمد الشاعر
لغة فصيحة وكانت مفرداته تميل للجزالة مثل : جوانبه ، الندم ،
استخدم ألفاظاً مناسبة لإظهار حالته النفسية مثل : الندم ، الأسى ، الوجم وهي
كما استخدم ألفاظها موحية تعطي دلالات عدة : علمي ، حرمي ،
وفق الشاعر بشكل كبير في انتقاء ألفاظه وفي رصفها في تراكيب متينة غلب عليها الطابع الخيري الذي خفف من حدة الانفعال وجعل لغة النص أقرب إلى المباشرة والتقرير .الأساليب خبرية لعل هذا مرده محاولة الشاعر توضيح ما يجب أن يكون عليه الشعر وهنا الأسلوب الخبري هو الأقدر على ذلك فلا ضير من هذا .
الأسلوب الاستفهامي اقتصر على على الاستفهام ما قيمة الشعر وقد وضحت سابقاً دلالته .
أما الصور الفنية فلم تكن كثيرة والسبب واضح أننا أمام مقطوعة وليس قصيدة طويلة وأن الموضوع المطروق لا يتطلب التحليق بعيداً في دنيا الخيال فقد جاء بصور مناسبة لما نسبه من معنى وهدف .
من الصور نجد :
نلمح الكتابة عن موصوف في : قلمي كناية عن شعره
علمي : كناية عن اسمه أي الشهرة
حرمي : كناية عن بيته أو وطنه
هرمي : كذلك كناية عن نفسه أو بلاده
وجمال الكناية وبلاغتها من كونها تشوّق لمعرفة خباياها ثم تنقل إلى الواقع فتقرب من الحقيقة
نجد التشبيه تام الأركان : في قوله
الشعر كالسيف إن فلت جوانبه عاد على الفارس السياف بالندم
والغاية هنا توضيح المعنى فالشعر إن شوهت أدواته سيعود بالندم على قائله تماما كالسيف الذي فلت جوانبه سيحدث صاحبه ولربما أودى بحياته .
نجد التشبيه البليغ : في قوله نبض قافيتي فالقافية نبض أي هي حية لاحظوا جمالية التشبيه البليغ الذي يجعل المشبه مساوياً المشبه به وكأنه حقيقة .
نجد الاستعارة المكتبة في البيت الأخير عندما قال : حتى يمتطي هرمي مجد وعز ...
أي : حتى يمتطي مجد وعز هرمي
شبه المجد بفارس وحذف المشبه به وترك شيئا من لوازمه ( يمتطي) على سبيل الاستعارة المكتبة
وجمالية الاستعارة هنا من كونها نقلت المعاني إلى المحسوس وأزالت الغموض
كما نرى أحبتي شاعرنا تأثر بالقدماء في صوره لكنه أحسن توظيفها لخدمة هدفه الراقي في جعل الشعر أداة تزيل أحزان البشر وترصد معاناتهم .
من المحسنات اللفظية : نجد التصريع في البيت الأول قلمي وعلمي وهذا يضفي جمالية على الموسيقا الداخلية للأبيات كما نجد حسن التقسيم في مجد وعز وعيش
أضفى أيضا إيقاعاً محببا الموسيقا الداخلية
كما نجد الجناس الناقص في : قلمي ، علمي ، هرمي، حرمي
وهذا كله يجمل الموسيقا الداخلية للنص.
من الصور الرائعة جدا
سينبع الشعر من قلبي قبل فمي ،الشعر بالفعل كلام القلب ويعبر عن نزعة داخلية وإيمان بقضية ما وهذا ما أراده شاعرنا وكان موفقا به
القلب ينطق بالشعر قبل اللسان
لله درك شاعرنا ما أجمل هذا البيان .
هذه الجماليات تحسب لشاعرنا نقاط قوة وكذلك المعاني السامية وصدق العاطفة أما نقاط الضعف فهي بالكاد تذكر بالنسبة للوزن وبعض الهمزات أشرنا إليها ولن أعود إليها مجدداً
دعوات رائعة وأسلوب مميز لشاعرنا الكبير ، جميل اللفظ متين العبارة ، أعتقد أن شاعرنا قال ما في جعبته فلم يجد حاجة لقول المزيد ولو زاد بيتاً واحداً لسميت قصيدة .
استمتعت جداً وأنا أدرس هذه الأبيات الساحرة مبنى ومعنى .
بقلمي : رنا محمود
أعتذر فشل النشر ضمن تعليق لطول الدراسة
دام ألقكم شاعرنا الكبير عادل درهم الرعاشي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق