الأحد، 22 يناير 2023

دراسة نقدية لقصيدة الشاعر المبدع د. غسان منصور منصور بقلم رنا محمود

دراسة نقدية وافية لقصيدتي النثرية (( هذيان  ))
بقلم أستاذة النقد : الشاعرة د. رنا محمود

هذيان

عمتِ مباحاً..
لِمَ حالُكِ...
أتمنى أن تكوني على ما يُراد
هلْ بكِ..!
وهل يؤسفكِ أحد..
أعتذر...
أجوبتي غريبة...
قلقتُ عليّ فيكِ..
لم أنمْ منذُ ليلةِ همس..
اذهبي منّي..
قطفتُ لكِ زفرةً...
رائحةُ عطشِها فوّاحة..
دعيني أقبّلُ شهقتَكِ..!
أعتذر..
حرفي يؤلمني ..
ماعاد يرحمني ..
وقصيدتي خاوية...
تنتظرُ أن ينزلَ وحيُ نبضكِ..
يا ملهمَتي..!
لمّي شعرَكِ..
لأكتبَ شِعري..
على وزنِ هيجانِ بحرك..
هناكَ..على شاطئ نحرك..
أعتذر...
عباراتي تغرق....
ابتعدي مني...
بل اقتربي قليلاً عنّي..
فراق ... عناق
اقتراب ... اغتراب
مسافات...مسامات...
عانديني...عانقيني...
هل أشهى من عناد العناق..
هل سمعتُكِ تلمسينْ..
أم... لمستُكِ....تسمعين
أعتذر...
صمتُكِ شيطانُ..
هربَ من تفاعيلِ قافيتي..
متى حالُكِ..!
هل أنتِ على ما يُلام
أين يؤلمُكِ اللا أحد
أعتذر...
دائماً...أسألُ...و أُجيب

عذرا" فحبك أصابني بالهذيان....

بقلم غسان منصور منصور 
========================

هل تهذي الحروف ؟ هل يتلعثم لسان العاشق فتشرد منه الكلمات أو تتوه ؟
سنرى معاً ، ونحن ندرس هذه القصيدة السّاحرة للشاعر الرائع د. غسان منصور
ابن حمص العديّة شاعرنا السّوريّ وريث نزار برقّة حروفه وصدق شعوره .
- نحن أمام نفحةٍ وجدانيّةٍ ذاتيّةٍ صادقةٍ ، فعندما يهذي المرءُ ينطقُ عقلهُ الباطنُ بخبايا نفسهِ ومكنوناتها.
اختارَ شاعرنا ( هذيان ) عنواناً لقصيدته ،
ومن يقرأ القصيدةَ يدركْ من العبارةِ الأولى مدى مناسبةِ العنوان للقصيدة ،
( عمت مباحا : أتراها مساء ، أم صباحاً ؟
أم ماهي سوى أمنيةِ عاشقٍ أن تكون  حبيبته سعيدة مباحةً موجودةً بقربه طوال الوقت .
لمَ حالكِ ؟ لربّما أراد كيف حالك وهذيانه أفقده الصّواب ، لكن حتّى وهي على هذا النّحو( تحتمل القول : لمَ حالك هكذا ؟
و ما حذف لدلالة الكلام السابق عليه ، ويبقى المراد والمعنى في قلب الشاعر ، لكني أرجح أنه تعمد هذا الخلط ليصف لنا هذيانه من العشق
وهناك مواضع أخرى مشابهة ...)
فشاعرنا وصل في حبّه حدّ الثّمالة ولربّما كان ثملاً حقّاً فتساقطت منه الحروف بترتيبٍ غريبٍ ؛ لكنّه يعبّر عن أقصى درجات الشعور وأقصد الحبّ والشّوق .
وهذا ما نراه في بداية القصيدة ونهايتها .
فهذا الخلط بين السّؤال والجواب ، و
استخدامُ أدوات الاستفهام على نحوٍ يغاير المألوف يبين لنا حالته النّفسيّة المضطربة القلقة والتي تشبه من أصابته الحمى فأخذ يهذي أو من أثملته الخمرة
فهذى أيضا .
أثناء كتابته هذه القصيدة .
القصيدة كما قلنا تندرج تحت مسمى قصيدة النّثر ، التي ظهرت مع دعواتِ الحداثة في مطلع القرن العشرين بعد شعر التفعيلة ، وهي لا تلتزم أوزاناً محددة وإنّما ضابطها الحالةُ الشّعورية لقائلها .
أمّا لغة الشّاعر فهي فصيحة جميلة المفردة واضحة لا تحتاج منّا البحث في معجم ، لكن ينطبق عليها وصف السهل الممتنع لما لها من دلالات وإيحاءات .
تشابه لغة نزار الشاعرية التي تميل للرقة والعذوبة والوضوح .
نجد الألفاظ الموحية مثل : يراد ،يؤسفك، شيطان ، بحرك ...
أما تراكيبها فغلب عليها الإنشاء من أمر واستفهام ونهي ونداء .
وهذا إن دل على شيء يدل على حدّة الانفعال و هذا يثير القارئ .
لمَ حالك.. ؟ هل بك .. ؟ أسئلة مبتورة
تدل على حالة التوتر والقلق والهذيان التي اعترت الشاعر ، وهذان السؤالان يظهران أيضا القلق على المحبوبة .
فلو أردنا إتمامهما لكانا  :
لمَ حالك هكذا ؟ هل بك شيء ؟
وترك السؤال مبتوراً تحفيز للأذهان لمعرفة المراد ، وهذا جيد  وجميل .
حتى في ( متى حالك ؟ )
لربما أراد
متى حالك كان هكذا ؟
والدليل السؤال الذي يليه
هل أنت على ما يلام ؟ وليس ما يرام ،كما اعتدنا .
إذا حتى حال المحبوبة ليست بأفضل من حال الشاعر .
أما الصّور فحدّث ولا حرج ، فقد أغنى شاعرنا القصيدة بروائع الصّور وهذه من أبرز نقاط القوة في القصيدة ، فتعالوا نتتبعها معاً ، أشكّ أنّ أحداً ممن لم يُصب بهذيانٍ كهذا قادرٌ على الإتيان بمثلها .
( أقبّل شهقتك  ، حرفي يؤلمني  ،
ما عاد يرحمني )
استعارات مكنية بلاغتها في التشخيص .
(وقصيدتي خاوية، تنتظر أن ينزل وحي نبضك ) .
(قصيدتي خاوية ) تجسيد
وجمال التجسيد هنا وبلاغته في نقل المعنوي إلى المحسوس .
(حرفي يؤلمني ... قصيدتي خاوية )
تعكس ألم  الشاعر  ، أنت من يتوجّع لا حرفك ، وقلبك خاوٍ دونها لا قصيدتك
(وحي نبضك) : تشبيه بليغ 
الجمالية هنا أنه ساوى بين المشبّه والمشبّه به ، ولاحظوا سحر المعنى
نبضها الملهم أي من سيبث الحياة في القصيدة .
لاحظواسلسلة الصّور ( وحي نبضك  هيجان بحرك ، شاطىء نحرك )
إشارة واضحة لرغبة جامحة بالوصل ، وليس أيّ وصل.
قصيدتك على العكس ملأى بل حبلى بالكثير من المعاني والمشاعر .
(يا ملهمتي لمّي شعرك لأكتب شعري
على وزن هيجان بحرك
هناك على شاطئ نحرك )
أنت مشتاق لها تريد لثم جيدها فهو ملاذك وشاطئ أمانك ، ولكم أن تتخيلوا أحبتي امتداد بحرها .
أتراه خفقان قلبها وعواطفها الهائجة الثائرة .
ما أجملها من قصيدة ينظم إيقاعها نبض الحبيب .
لاحظوا كيف يخالف شاعرنا عادة الشعراء في التغني بجمال شعر الحبيبة المنسدل المجنون ويطلب منها أن تلم شعرها ، ليستريح على شاطئ النحر ، فهل من شاطئ أجمل !
بلاغياً نجد :
(شاطئ نحرك ) تشبيه بليغ
( عبارتي تغرق) : استعارة مكنية  
لاحظوا جمال المعنى : من كان شاطئه  نحرها كيف لحروفه أن تطفو وتصدح،  ستغرق لا محالة ، وينحبس الكلام .
( ابتعدي مني ، بل اقتربي قليلا عني ).
أتذكرون  نزار عندما كتب ( أسألك الرحيلا ) بم ختمها ( ابق معي إذا أنا سألتك الرحيلا )
ابتعدي مني أردت العكس ، وكذلك الحال في اقتربي .
هذيانك جعلك تخلط هاهنا أيضا
وكأني بك كنت تريد القول :
اقتربي مني ، بل ابتعدي قليلا عني
تريد لها الاقتراب ثم الابتعاد قليلا لتستجمع قواك لعلك تجد ضالتك من الحروف .
(فراق ، عناق )
( اقتراب ، اغتراب)
(مسافات ، مسامات) 
(عانديني ، عانقيني)
انظروا  لهذه الثنائيات ، كلها تنتهي باللقاء الجسديّ ( عناق ، مسامات ، اقتراب ، عانقيني. )
ليتك قلت (  اغتراب ، اقتراب )
لتتفق مع مثيلاتها  .
وهذا التّضاد الواضح ( الطّباق ) محسّنٌ معنويّ يقوّي المعنى ويثير الذّهن للاختلاف
وعاطفيّاً يدلّ على صراعٍ داخليّ بين رفض وقبول بين شوق ونفور ...
عانديني عانقيني
أنت في قمة الانفعال وما أحلاه من انفعال !
(هل أشهى من عناد العناق ؟)
سؤالك هنا بليغ أي لم ينحصر بالاستفهام بل تعداه إلى معنى آخر وهو النفي .
فكأنك تقول : لا أشهى من جدال العناق .
ومن حيث المعنى نعم أنت محقّ ، تخيلوا المشهد تريد عناق أحدهم وهو يحاول الابتعاد سيكون العناق في أشدّ حالاته ، سيكون عناقاً قويّاً وحاراً .
حتى هنا بلاغياً نجد صورة جميلة جداً
جدال العناق : تشخيص
أي العناق يتكلم ويجادل كالإنسان
بالله عليكم ! ألم تشتهوا مثل هذا الهذيان ؟
(هل سمعتك تلمسين ؟ أم لمستك تسمعين  )
هنا فوضى الحواس  وهذا الوضع الطبيعي للعاشق الولهان الذي يدرك محبوبه بكل حواسه ، يسمع بأذنيه ويديه وعينيه... وكذلك حال الثمل أيا كان سبب ثمالته و هذيانه .
صمتك شيطان : تشبيه بليغ
هذه المحبوبة مصدر إلهام حتى صمتها يستفز شاعرنا ، وكأنه شيطان الشعر الذي
فرّ من قوافيه.
هنا إشارة خفية لخلاف بين المحبوبين اقتضى بعدها وصمتها وهذا ما أثار شاعرنا ودفع إلى حدّ الجنون .
نجد المحسنات البديعية السّاحرة :
كالجناس الناقص ( يرحمني - يؤلمني ) (نحرك - بحرك )، (مسافات -مسامات )، (عانديني - عانقيني  ) وهو محسن لفظي
ونجد الطباق : ( اقتراب - اغتراب) ،
(فراق - عناق )، (يؤلمني - يرحمني )، (أسأل - أجيب ...  )
أمّا العاطفة : وجدانيّة ذاتية صادقة عميقة هائجة وهذا ما أكدته كثرة التساؤلات التي لم تكن تنتظر الجواب وإنما لإظهار الانفعالات من رجاء والتماس وغضب أحيانا وقلق .
ومشاعر الحب والشوق والقلق والدهشة
تغلغلت في ثنايا الحروف .
أمّا موسيقا النص الدّاخليّة : فتأتت كما قلنا من حسن التّقسيم في العبارات التي أشرت إليها ، ومن تشابه الأحرف النّاجم من ورود الجناس الناقص هذا المحسن اللفظي البديع ، و من إيراد كلمات متشابهة وزناً مثل : ( عانديني - عانقيني
يؤلمني - يرحمني ...   )
القصيدة حقيقة ودون مجاملة ساحرة في حرفها وبلاغتها وحتى موسيقاها الحية التي كانت تنبض حقا بالحياة والمعاناة من الحب ، استطاع شاعرنا ببراعة أن يجعل من قصيدته لوحة حقيقية لحال من أثمله الحب وجعله يهذي بكلام قد يظنه البعض غير مفهوم ، وهذا بالتأكيد متعمّد  .
والدليل أن شاعرنا اعتذر في نهاية القصيدة لأنه خلط بين السؤال والجواب
قائلا: إن حبّها أصابه بالهذيان.
ألا ما أروعه من هذيان !
قيصر للأبجدية بحق ، الحرف طوع بنانك
قلبته كيفما شئت ونثرته على السطور  أحرفاً تضاهي الحقيقة في صدقها .
استمتعت كثيراً وأنا أجول بين حروفكم ، وللعلم لم اتوقف عند كل ما فيها من جمال ، اكتفيت بهذا آملة أن أكون قد وفّقت في إظهار بعض من خباياها و دررها الثمينة .
لكم تحيتي و زنابق الود وخالص التقدير لسمو الحرف .
بقلمي : رنا محمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق