نزلت من السيارة بصعوبة ، لقد أتعبها السفر ، خطت بضع خطوات لتدخل الزنقة ، وجدت جمعا من الناس أمامها ، فجأة تعود بها الذاكرة إلى ذلك اليوم المشؤوم ، نعم هاهنا بنفس المكان ونفس التوقيت وبمثل هذه المناسبة ، كانت بعمر الياسمين في المرحلة الأخيرة من التعليم الثانوي ، كانت تتهيأ لتبدأ آخر سنة دراسية لها بالمرحلة الثانوية، ستجتاز بعدها امتحان البكالوريا ، بهذا المكان نفسه ارتمى عليها ولطمها على خدها بكل قسوة وصرخ قائلا : " هذه ليست ابنتي ، أنا لا أعترف ببنوتها، هي لا تمت لي بصلة ، أنا أتنازل عنها ، عن أبوتي لها ، من يريد أن يشتريها أبيعه إياها ... " كلمات نزلت على مسمعها كالصاعقة ... دمرت كل كيانها.. أردته خرابا ... كلمات غيرت مجرى حياتها رأسا على عقب ... كلمات ليست كالكلمات ... كلمات جعلتها تشتهي لو انشقت الأرض وبلعتها... ليتها ما وجدت وما كانت بهذه الحياة ... أسرعت المسكينة واختفت من بين الجموع ... الكل ينظر باستغراب.. كيف لأب أن يقول هذا الكلام عن ابنته ... لو كانت حقا ابنته لما تجرأ على قول ذلك .... وهكذا ألفت القصص والروايات وتفنن مؤلفوها في سرد وحبكة الأحداث ... والمسكينة قابعة بالبيت لم تقدر على نسيان ذلك المشهد ولم تستوعب أصلا الحادثة ... أصبحت تغوص في بحور الشك والظنون ... ترى هل ما قاله صدقا ؟ هل أنا لست ابنته ؟ من تراه يكون أبي ؟ ولماذا أخفت أمي عني هذا الأمر ؟ ولماذا لم يخبرني بذلك إلا اليوم ؟ وهل أصلا أمي هي أمي ؟ هي من أنجبتني؟ أم تراني لقيطة ؟؟ ؟ ...
تراكمت الأسئلة كالجبال وأخذها بحر ظنونها وشكها بين مد وجزر ... وما عادت تستطيع الخروج من البيت ، كيف لا وهي التي اعتادت على احترام الجميع ومحبتهم لها ، كيف سيحترمون من شوهت بهذه الصفة ... قضت أيام وليالي وهي في عزلة تامة عن الجميع ، وذات عشية دخل زوج خالتها وطلب منها أن ترافقه إلى بيته بالعاصمة وطلب منها أن تأخذ معها كل وثائقها الشخصية حتى يستطيع ترسيمها بأحد المعاهد هناك ... انفجرت بالبكاء وصرخت عاليا : ترى هل هذا هو الحل بنظركم؟؟؟ هل هذا ما يهمني الآن ؟؟؟
أتتخيل أن ترك مسقط رأسي ومنبتي ، ومرتع صباي ومعهدي وخلاني ورفقتي طوال سنوات هين وسهل ؟ هل رحيلي من هنا سيمحي ما سمعته ؟ هل سيمحي كل القصص التي ألفت حولي ؟ هل سيغير نظرات كل من هم حولي لي ؟؟
لا لن أبتعد عن هذا المكان ، ولن أتخلى على من عرفت وأحببت حتى وإن شكوا في نسبي ، لا يهمني أنا لست مذنبة ولا ولن أتحمل وزر غيري إن كان هناك وزرا من أصله .... سأواصل حياتي كما بدأت وسأتابع دراستي وسأجتهد للحصول على شهادتي ولن أترك فرصة لأي كان يعكر بها علي صفو حياتي ... لا تخف سيدي علي ، شكرا على كرمك ونبل خلقك لكن أنا هنا باقية إلى أن يشاء الله ....
هنا عادت إلى حاضرها ، حين ارتمى أخوها يقبلها ويرحب بمقدمها ، عادت إلى مسقط رأسها بعد سنوات من الغياب ومن الوجع الذي كان يرافقها من تلك الحادثة !
رفيعة الخزناحي
تونس
#هلوساتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق