الخميس، 25 يوليو 2019

دراسة قصيدة ذكرى للشاعرةتغريد خليل..... بقلم المبدعة رنا محمود

دراسة قصيدة ( ذكرى )
للشاعرة تغريد الخليل

ذكرى ..

ناداكَ همسٌ من جمانٍ قد سلى
اسمعْ ..فدقّاتُ القلوبِ تصفّقُ

في صُفرةِ الأوراقِ سلوى مُهجتي
كانت نعيماً في جناني تورقُ

هل تذكرينَ لقاءنا ..خلف القمر؟
والنجمُ يغمزُ في فتورٍ يشفقُ

يتهافتُ الأرجُ الرهيفُ توسُّلاً
والخمرُ أعتابَ الخريفِ مُعَتّقُ

هل ملّتِ الأشعارُ من قصصِ النّوى
أم أنّها حفلت..والشوقُ فيها يحرقُ؟

ذكراك ِ طيَّ حشاشتي خبّأتُها
والأحمرُ القاني يميدُ ويخفقُ

أدعوكِ بالسّقيا يا أيامنا عودي
هل خابَ ظنّي في خريفٍ يُرهِقُ؟

لا لسْتُ أنساكِ ..وقدْ فارقْتِني
سُكناكِ في قلبي و روحي تعشقُ

قد شاب مني مفرقي وتضاحكتْ
أيّامُ عمري ..وهي تلظى تخنقُ

وأضيعُ في النّجوى فهل من مشفقٍ؟
وتردُّ غصّة ..ثم عَبْرة تشْرَقُ

غابَ الرفاقُ تدانوا في أمدائها
أنت َ كتابي ..خيرُ أنسٍ يصدقُ..

تغريد خليل

القصيدة التي بين أيدينا نفحةٌ وجدانيّةٌ ذاتيّةٌ ساحرةٌ ، فالشّاعرة ترصدُ لنا حالتها
الشّعوريّة ففي البيتين الأوّل والثّاني تناجي الحبيب همساّ وهي تقلّب دفاتر ذكرياتها القديمة أو الماضي القديم .
ثم تجعل الكلام على لسان الحبيب الغائب وترصد ما كان من لقاءاتٍ و تشير إلى معاناته هو الآخر وحبّه وشوقه .
وتعود مجدّدا في البيتين الأخيرين إلى النّجوى معبرةً عن غصّة الشّوق و الألم
فلا مؤنس لها سوى الكتاب .
وبهذا تغلقُ بإحكامٍ وبراعةٍ نصّها .

النّص شعريّ نظم على البحر الكامل وهو من الشّعر التّقليديّ، يتبع المدرسة الكلاسيكيّة في شكله ومحاولة التزام أوزان بحر معين وروي واحد...
لكن التأثر بالرّومانسية بدا من خلال الاعتماد على الطّبيعة بشكل كبير لاستقاء الأخيلة والصور ، إضافة إلى وجود بعض الأجواء الغامضة الرّمزية ، وظهور ذاتية الشاعرة بشكل ملحوظ .
وقد اختارت شاعرتنا عنواناً لنصها ( ذكرى ) فأوحت مباشرة للقارئ بالمضمون وحتى باللواعج والشّعور ، ولو اختارت عنواناً فيه إثارة وغموض لكان أقوى .
أما لغة النّص فهي فصيحة واضحة إلى حدّ بعيدٍ ، لكن نلمح ألفاظاً إيحائية قد تحمل أكثر من معنى مثل جمان، الأرج، الخمر ..
جمان : درر الكلام ( كلام الحب والشوق )
والجمان هو الدر، ولربما أرادت بها الأسنان وهذا يقتضي إرادة الشفاه وهي التي تهمس.
الخمر : رمز للحب الذي تعتق مع خريف العمر .
الأرج : قد تكون رائحة الطيب ، أو النسيم المعبق بها ، أو الكلام الرقيق من المحبوب ..
لكنّي أغلّب هنا أنّها توسّلات الحبيبة الرّهيفة المعبّقة بطيبها للحبيب بالبقاء وعدم الرّحيل .
وهذا ما يؤكده البيت الذي يليه .
حشدت الشّاعرة ألفاظاّ عديدة للدلالة على الشوق وتبعاته من حرقة وألم ( الشوق ، يحرق ، يرهق ، تلظى، غصة ، مشفق.. ) فيما يشبه الحقل المعجمي .
نلمح ألفاظاً جزلة مثل ( تلظى، تخنق ، يحرق ، غصة .. ) وقد وظفت في مكانها الصحيح وأسهمت في تقوية المعنى .
وإظهار عمق الشعور.
التّراكيب متينة السّبك، تنوّعت بين خبر وإنشاء وهذا ضمن لشاعرتنا تفاعلنا معها.
من الأساليب الإنشائية نلمح الأمر( اسمع ، عودي) وهذا دليل انفعال صريح.
يا أيامنا : أسلوب نداء
والاستفهام نجد ه في :
هل تذكرين ..؟ والغاية هنا التحسين والتجميل ، وكأنه يقول : ما أجمل لقاءنا ...
هل ملّت الأشعار أم ..؟ وهنا خرج الاستفهام للدّهشة والاستغراب .
هل غاب ظني في خريف ..؟ وهنا خرج الاستفهام إلى عدم التّصديق .
فهل من مشفق ؟ خرج الاستفهام للنّفي
فشاعرتنا لم تجد من يشفق عليها أو الاسترحام.
لاحظنا جمالية الاستفهام و المعاني التي أفادها غير السؤال .
أما الصّور والأخيلة فنجد
صفرة الأوراق : كناية عن دفاتر الماضي وذكرياته ( الكتب القديمة وما قد تبثه من ذكرى) والصّورة جميلة ومبدعة فالأوراق تصفرّ مع تقادم الوقت .
خلف القمر : إشارة إلى اللقاء بعيدا عن نور القمر وأعين الغرباء.
نجد بعدها كيف رقّ النّجم لهما وأشفق فأخذ يغمز في فتور : أي يومض وميضاً متقطعا خفيفا كي لا يلفت الانتباه لهما
وهو مشفق لأنه لقاء على أعتاب الفراق فيه التوسل والاستجداء.
قلت لكم الشّاعرة هربت للطّبيعة في صورها .
( النجم يغمز ) استعارة مكنية جمالها في التشخيص
في هذا اللقاء الذي احتضنته الطبيعة
( يتهافت الأرج الرهيف توسّلا )
الأرج : طيب الرائحة ، وهي لم تتهافت إلا بفعل النسيم ، وكأن النسيم هو الآخر جاء محملا بالطيب متوسلا عدم الفراق .
أيضا الصورة هنا استعارة مكنية شبه الأرج فيها بالإنسان وحذف المشبه به وألقي على شيء من ولوازمه وهو هنا ( توسلا ، تهافت )
(ملّت الأشعار ، الشّوق فيها يحرق ، خريف يرهق ، روحي تعشق ، تضاحكت أيام ، هي تلظى تخنق ،تردّ غصّة ، كتابي يصدق ) هذه الصور كلها استعارات مكنيّة
وجمالها في التشخيص .
أيضا عبرة تشرق : استعارة مكنية
تضا
نجد الكناية ( قد شاب مني مفرقي ) كناية عن تقادم العمر .
السقيا: كناية عن الوصال .
الشاعرة لم تأبه للبديع، نلمح طباق الإيجاب ( محسن معنوي ) في
( ملّت ، حفلت ) ولها أثر على المعنى وتحفيز الأذهان .
العاطفة : وجدانية ذاتية عميقة صادقة تخللتها بوضوح مشاعر محتدمة من شوق وحزن وألم إضافة للحب .
لاحظوا معي : الأحمر الثاني يميد ويحقق
( يميد ' يخفق ) استخدام الشاعرة لهذين الفعلين الحركيين متتابعين كان عنصر قوة إذ دل على اضطراب واحتدام مشاعر الشوق والحب في قلبها .
كذلك الحال في استخدامها ( تلظى ،تحرق ) أكدت على مدى الألم وحرقة الشوق .
الموسيقا : قلناةالقصيدة نظمت على البحر الكامل وفق قافية مطلقة وحرف روي هو القاف المضمومة و ما يوحي به من قلق وقهر .
لكن شاعرتنا لم تحسن الإمساك بالدقة فخرجت عن البحر في مواضع عدة :
خلف القمر ، اضطرت لتسكين الراء المتحركة حفاظا على الوزن .
- أم أنها حفلت والشوق فيها يحرق .
-أدعوك بالسّقيا أيّامنا عودي
-أيّام عمري وهي تلظى تحرق
-وتردّ غصّةٌ ثمّ عبرة تشرق
-غاب الرفاق تدانوا في أموائها
- أنت كتابي خير أنس يصدق .
أشرت إلى العديد من نقاط القوة في الدراسة .
من نقاط الضعف وجدنا الخلل في الموسيقا الخارجية لبعض الأبيات.
أجد ضعفا في الصورة التالية :
دقات القلوب تصفق ، لو قالت ( القلوب هي من تصفق) لكانت أجمل .
نلمح خطأ إملائيا( سلى: سلا لأن مضارعها يسلو وأصل الألف واو )

حاولت التزام الموضوعية في دراستي .
لشاعرتنا الغالية مرهفة الإحساس أقول استمتعت جدا وأنا أبحث في خبايا هذا البيان الساحر ولسعتني حرارة العاطفة واتقادها لكن فوجئت بقولها الرفاق ، بدلا من الحبيب ، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على أثر المجتمع الذي مازال يحدّ من حرية المرأة في التعبير عن مشاعرها .

نص ساحر بالفعل ، أرجو لك دوام الإبداع والإشراق .
تقبلي تحيتي ومودتي وورود القلب .
الشاعرة جوليا دومنا ( تغريد الخليل )

بقلمي رنا محمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق