نفحات من ذكريات القرية
===============
هناك في قرية صغيرة
تلاحمت مع صحراء بادية الشام على حافتها الغربية تميزت تلك القرية بوجود أقنية رومانية تسير تحت الأرض بعمق عدة أمتار وكان أصحاب القرية يعرفون مخطط مسار تلك الأقنية فيحفرون آبارهم فوق إحدى القنوات بعمق سبعة أمتار تقريباً بشكل دائري وبقطر حوالي خمسة أمتار وتكون عادة القناة بعمق خمسة أمتار عن مستوى سطح الأرض فيمتلئ البئر إلى حدٍ معين بعمق مترين ونصف تقريبا ويتابع الماء مسيره في الشق الثاني من القناة لتصب في البئر الذي يليه ، ويُنصب على البئر مضخة تعمل بالديزل تضخ الماء فيجري الماء النقي في السواقي ليسقي الزرع ويحيل الأرض الجرداء إلى جناتٍ من الزرع المنوع من جميع اصناف الخضار وبعض الأشجار المثمرة بأنواع الفاكهة بالإضافة إلى جميع أصناف الحبوب من قمح وشعير وعدس وغيره
وبعض الأصناف التجارية مثل القطن . والعجيب أن تلك الأقنية لا أحد يعرف من أين مصدر الماء الذي يجري فيها ويعتقد بأنه قادم من نهر الفرات ...
كان في وسط تلك القرية سوق صغيرة لاتتجاوز عدد محلاتها العشرة دكاكين
متنوعة بين سمان ولحام وبائع أقمشة
ومحل أحذية بالإضافة ألى الخدمات العامة مثل الحلاقة وخياط الملابس .
في تلك السوق اختار والدي دكان ذو فتحتين أي كبيرة نوعاًما وخصصه لبيع السمانة ودكان السمان في القرية هو بمثابة ( السوبر ماركت ) الصغير حيث أنه يحتوي على جميع مايحتاجه سكان القرية من تموينات وبعض الأدوية الضرورية ولوازم الخياطة حتى بعض مواد البترول مثل المازوت والكيروسين .
حيث استأجر دكان جنب دكانه واستخدمها مستودع للمواد البترولية والمواد التي كان يشتريها من العملاء مثل القطن والقمح والعدس والبيض وصوف الأغنام مقابل مايحتاجون من الدكان من سكر وشاي وسمن وزيت وغيره من ضروريات الحياة وأستطيع أن أصفه بالتبادل التجاري . إذ أن معظم سكان القرية كانوا مزارعون وكان موسم الحصاد والزارعة هما مصدر دخلهم وكثيرا منهم كانوا يشترون حاجاتهم بالدين على أمل السداد في نهاية الموسم من جني الثمار أو حصاد الحبوب وبيعها وكان الفقر رفيقاً لشريحة كبيرة من أهالي القرية ممن ليس عنده أرض يزرعها أو لا يملك ثمن البذور واجرة فلاحة الأرض .
عدا بعض العائلات الغنية المعروفة في القرية الذين كان لهم الحظ الأكبر من الأراضي الزراعية وكان عدد كبير من الفلاحين يعملون بالأجر اليومي أو الشهري .
كنت لم أتجاوز الخامسة من العمر عندما
أحضرنا والدي من المدينة واستأجر لنا داراً عربية كبيرة فيها عدة غرف وحوش كبير خلف دكاكين والدي وكان عند والدي قطيع من الغنم .
وبالرغم من صغر سني كنت أخرج مع أخي الذي يكبرني بستة سنوات نرعى الغنم لساعات طويلة في المراعي القريبة من القرية ونعود إلى القرية قبل حلول الظلام حيث توجد حظيرة في منزلنا مخصصة لمبيت الغنم
والعناية بها وفي اليوم الثاني نسرح بها
كان والدي رحمه الله ميسور الحال فاستأجر دكان رابعة وشارك أحد اللحامين وفتحها ملحمة وكان كل يوم يذبح عدة رؤوس من الغنم ويبيعها ويخصص لي منها ( الطحال )
وعندما بلغت السادسة من العمر سجلني والدي رحمه الله في المدرسة في السنة الأولى الابتدائية .
كان ذلك في بداية الوحدة بين مصر وسوريا وكانت المدرسة مختلط كنت أجلس في وسط المقعد الدراسي وتجلسان بجانبي عن يميني وشمالي فتاتان حيث أن المدرسة حديثة العهد وليس فيها صفوف من المراحل الابتدائيه
سوى ثلأثة صفوف ، غرفتين للفصل الأول وغرفة للفصل الثاني وغرفة للفصل الثالث وجميع الغرف على شكل قبب كنت متفوق في الفصل وكل ماكنت أسمعه من الاستاذ في المدرسة أنقله إلى والدتي وإخوتي وأروي لهم القصص التي كان يرويها لنا الاستاذ بحذافيرها وهم يستمعون لي وهم يشجعونني .
وفي أحد الأيام أتوا إلينا ضيوف من المدينة اثنتين من عماتي أخوات والدي وأولادهم معهم حوالي ثمانية أفراد .
وكانت إقامتهم عندنا لعدة أيام ...
وفي اليوم الثاني قام والدي بذبح جمل صغير ( قعود ) وبعد سلخه وتقطيعه تبين لوالدي أن كمية اللحم كثيرة وسوف يفيض كمية كبيرة من اللحم عن حاجتنا ونظرا لعدم توفر الثلاجات في تلك الفترة من الزمن لحفظ الأطعمة ، والواقع أن الكهرباء لم تكن وصلت إلى تلك القرية النائية نوعا ما . لذلك فقد قرر والدي أن يقسم اللحم إلى قسمين وأحضر قدر كبير (حلة كبيرة ) وضع فيه ماء ووضعه على الموقدة ووضع احد قسمي اللحم في القدر وأوقد تحته النار .
أما ماتبقى من اللحم فقد قسمه إلى حصص كثيرة كل حصة مابين أثنين وثلاثة كيلو غرامات وأحضر من الدكان أكياس ثم عبأها وقال لأخوَيّ الأكبر مني خذا الأكياس وأعطوها إلى بيت فلان وفلان وحدد لنا حوالي ستة أو سبعة عائلات فقيرة . ذهبت مع اخوتي نوزع أكياس اللحم وكلما دخلنا بيت كانوا يلاقونا بالترحيب والتأهيل والتكريم
وكانت مظاهر الفقر تتجلى في بيوتهم ولباسهم وكل ما في البيت من أثاث وأدوات منزلية لاتكاد تذكر يدل على فقرهم ...
وأكثر ما لفت انتباهي وجعلني أتذكر من تلك البيوت بالرغم من صغر سني بيتين لتشابه اسماء صاحبتيهما وكانتا تكنيان بنفس الإسم ( زنوبة ) وهو لقب لإسم زينب . كانت زنوبة الأولى أم لأربعة أولاد أيتام تراوحت أعمارهم بين السنتين والعشرة سنوات وأمهم أرملة لم تبلغ بعد الثلاثين من العمر لم تتزوج بعد أن توفي زوجها الذي كان يعمل في لبنان مثله مثل كثير من شباب القرية ذهبوا إلى لبنان ليجدوا فرص عمل تأمن لهم ولأبناءهم حياة أفضل وكان نصيبه أن دهسته سيارة مسرعة أثناء عبوره الشارع وهرب السائق بسيارته ولم يُعرف غريمه ولم تتزوج الأم حيث فضَّلَت السعي لتربية أطفالها وكانت تعمل في موسم الحصاد بالمنجل بحصاد القمح والشعير مثلها مثل الكثيرات من بنات القرية اللاتي يعملن معها بأجرٍ زهيد لايكاد يسد رمق أطفالها وفي باقي أيام السنة تعمل في الزراعة وجني الثمار والفلاحة كانت حياتها هي وأطفالها حياة بئسٍ وشقاء .
وعندما أحضرنا لهم اللحم فرحوا كثيراً
وسارعت الأم إلى وضع قدر فيه ماء مع اللحم على الموقدة وأشعلت النار تحت القدر ببعض من روث الأنعام المجفف والمصنوع على شكل قطع متساوية ويسمونه ( الجلّة )وكان ذلك شانها شأن باقي سكان القرية نظراً لقلة وجود الحطب وحتى في المدينة كان كثير من الناس يستخدمون ( الجلة ) للتدفئة وللطهي ولتسخين الماء وذلك قبل ان يستخدم الغاز بشكل عام .
ونظراً لعدم إمكانية شراء المازوت والكاز ( الكيروسين ) .
بعد أن بدأت الأم بالطهي خرجنا من عندهم وذهبنا إلى عدة عائلات أخرى فقيرة ووزعنا عليهم الحصص المتبقية وكانت منهم عائلة زنوبة الثانية كانت زنوبة هذه قد تجاوزت الأربعين سنة من العمر وعندها عدة أولاد شباب كان اصغرهم عمره حوالي خمسة عشر عاماً إثنان منهم في الخدمة الالزامية في الجيش السوري وواحد ذهب إلى لبنان
ليعمل هناك ولم يرجع منذ سنتين تقريبا
ولا أحد يعرف عنه شيء ، أما زوجها كان تجاوز عمره الخمسين عاماً وكان مريضاً تنتابه أحيانا نوبة من السعال الشديد ونظراً لعدم وجود منشأة طبية في القرية ولا يوجد ولا دكتور واحد في القرية كلها فقد كانت حالته الصحية تسوء اكثر فاكثر ولا يوجد من يشفق عليه ويأخذه إلى المدينة لعلاجه .
رجعنا إلى البيت بعد الإنتهاء من مهمتنا وكان الأهل والضيوف ينتظرون عودتنا لنتناول الطعام معهم .
وبعد عدة أيام ذهب الضيوف وعادوا إلى المدينة .
وكنت قد اتممت نصف السنة الدراسية صف أول ابتدائي عندما استأجر لنا والدي
سيارة كبيرة لتنقلنا جميعنا إلى المدينة وحملوا عليها جميع الفرش والأواني والثياب وكنت لا أدري ماسبب هذا التحول فجأة في ذلك الوقت انتقلنا إلى مدينة حماة ذات الطبيعة الخلابة بنهرها العاصي ونواعيرها وبساتينها ذات الأشجار المثمرة والخضار المتنوعة الطازجة ...
كان بيتنا لايزال مغلق بعد غيابنا عنه حوالي سبعة شهور حيث تابعت دراستي في مدرسة الملك الأفضل الابتدائية ...
كانت الذكريات دائماً تمر في خيالي كشريط سينمائي وكنت أتمنى العودة إلى القرية بشوق وحنين ، وكان والدي مايزال يقيم في القرية لضرورة العمل هناك ويأتي إلينا كل حين جالباً معه الكثير من الخيرات من بيض وبعض الحبوب والسمن والجبنة . وعند سفره يأخذ معه مايلزم للدكان من مواد غذائية لبيعها هناك ...
إلى أن انتقلت إلى مرحلة الدراسة الإعدادية في مدرسة عثمان الحوراني . وقد فهمت من الأحاديث التي كانت تدور في المنزل أن سر عودتنا هو أن أخي الأكبر مني كان له صديق من الجيران وكان بيتهم ملاصق تماما لبيتنا وهو من عائلة كبيرة وهو ابن مختار القرية .
ذهب أخي وصديقه إلى البيدر مكان دراسة سنابل القمح وباقي الحبوب واستلم كل واحد منهما ماكان يسمى ب ( الحيلان ) وهو عبارة عن مركبة تقوم على عدة مسننات دائرية من الحديد تدور مع سير العربة على سنابل القمح أو غيره من الحبوب لمرات عديدة بشكل دائري حول نفسها حتى تنزع الحب من السنابل وقد نصب عليها مقعد يجلس عليه قائد المركبة ويمسك بذمام الدابة التي تجر المركبة وعلى الغالب تكون الدابة بغل أم كديش ،
قام ابن المختار بلف الحبل المربوط برأس البغل ( الرسن ) حول خصرة وبدأت العربة بالدوران حول نفسها واخي كذلك وفجأة خرجت العربة عن خط سيرها وعدت الدابة مسرعة فسقط الشاب على الأرض واصبح جسمه تحت العربة ونظرا لان الحبل مربوط حول جسمه لم يتمكن من التخلص من الحبل
اصيب الشاب بجروح كثيرة قبل ان يتم السيطرة على الدابة وإيقافها ونقله والده
إلى مستشفى في بلدة السلمية حيث مكث اسبوع في المستشفى ثم توفي إلى رحمة الله
كان وقع الخبر على عائلته التي كانت من اكبر عائلات القرية كالكارثة وبعضهم اتهم أخي بأنه هو السبب في وفاته وطالب بعضهم بأخذ الثأر له ومعروف أخذ الثأر في العادات القبلية حيث يتم من أي فرد من أفراد العائلة .
لذلك فقد نقلنا إلى المدينة خوفاً على اخوتي وبخاصة صديقه الذي كان موجود أثناء الحادثة .
وبعد التحقيق من قبل رجال الأمن بالحادثة ثبت لهم أنها كانت قضاء وقدر وليس لأخي أي علاقة بالموضوع وكان المختار والد الشاب المتوفى انسان عاقل ذو حكمة وأخلاق حميدة
وعنده حنكة وخبرة في تسيير الأمور فجمع العائلة وأخبرهم أن الحادثة قضاء وقدر وأنه هو شخصيا متنازل عن دم ابنه وأوصاهم بعدم التعرض لأحد من أفراد أسرتنا في المستقبل وأننا نحن كافراد اسرته ولا يمكن الإعتداء على أحدٍ مننا .
وبعد أن تأكد والدي من أن الأمور قد هدأت واطمئن قلبة اصبح يصحبني معه إلى القرية أثناء العطلة المدرسية كي اساعده في عمله كنت أمكث معه حوالي شهر ثم نسافر إلى المدينة وبعد أن يشتري والدي مايحتاجه من أغراض للدكان نعود إلى القرية وهكذا إلى أن تنتهي العطلة المدرسية فأرجع إلى المدينة لاكمل دراستي وبعد أن انتقلت إلى المرحلة الثانوية صار والدي يصحب معه أخي الأصغر مني إلى أن مل والدي من السفر والغربة وقد بلغ من العمر حوالي سبعين عاما فباع الدكان بما فيه وعاد إلى المدينة واشترى دكان في نفس الحي الذي نقطن فيه واستقر في المدينة معنا .
تلك النفحات من الذكرى لم أكن لأنساها أحببت القرية وعشقت الحياة فيها وأنا صغير بالرغم من صعوبة العيش حيث لايوجد كهرباء ولا شوارع مسفلته ولا حدائق عامة مثل المدينة أو دور سينما نذهب إليها حتى المدرسة الابتدائية كانت بدائية ليس فيها أي خدمات حتى الباحة كانت أرضها تراب والصفوف كانت على شكل قبب .
وكان في القرية جامع واحد بعيد نوعاً ما عن وسط القرية وكانت المئذنة مقامة فوق تل في وسط القرية خلف بيتنا من جهة الشرق وكان المؤذن يصعد درج المئذنة كل وقت آذان ويؤذن في أعلى المئذنة بأعلى صوته فيسمع الأذان جميع أهل القرية بدون مكبر صوت .
كانت الحياة في القرية شاقَّة وشبه بدائية ولكن كانت لها نكهة خاصة بالنسبة لي ، أو أن الذكريات قد كبرت معي وجعلتني في شوق إلى طفولتي الجميلة ...
سقى الله تلك السنين الخوالي سنين عشقي وذكرياتي كل خير وأحسن خاتمتنا وجعل
خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاه وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ...
==========
بقلم :#عبدالرزاق_سعدة
الأحد في ٢٦/ ٨ / ٢٠١٨
فازت هذه القصة في مسابقة القصة القصيرة عن شهر آب اغسطس
بجامعة شعراء الأبجدية العالمية وكانت من بين المشاركات المميزة
من أصل ٨٠٠ مشاركة تقريبا بعد ترتيب الأوائل ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق