دراسة لقصيدة الرائعة د.مريم غرير
قسوة العطر
=========
وحين مررت سيدتي
تفتّح زهر أوردتي
نسائم عطرك انسكبت
على تجفاف أوتنتي
سرقت تماسكي علنا
أما أرضاكِ ساحرتي
وزدت شتات أحداقي
أخذت ثبات عاطفتي
أعيديها اتجاهاتي....
وردي سمت بوصلتي
أخوض عباب أشواقي
تمزق حبل أشرعتي
أزلت مداد أوراقي
وضاعت فيك قافيتي
ألا رفقا بأوصالي
وعطفا منك فاتنتي
لمن أشكو صراعاتي
لمن أشكو معذبتي
فما أقساك ياعطر
وماأقساك قاتلتي
يبقى الغزل الغرض الأقرب للقلب عاشق ومعشوق ، هذان المتناقضان ، قطبان مختلفان وما يثيرانه من علاقة الجذب .
في قصيدتنا اليوم أرادت الشاعرة وصف عطر المحبوبة وما يلقي به من سحر على حال الحبيب ، يقلب كيانه رأسا على عقب .
وفي الحقيقة إنّما الغاية الخفيّة بثّ الحبّ والشّوق .
قصيدة كما نرى رشيقة القوام وكيف لا وهي من مجزوء الوافر ، عموديّة راعت نظام البيت الشّعريّ المستقلّ وشطريه .
إذا من حيث الشّكل تتبع الكلاسيكيّة الحديثة أمّا من حيث الانفعال العاطفي وغرابة بعض الصور فهي تتبع الرومانسية فالاتباعية تخاطب العقل بالدرجة الأولى .
كما نرى انتقت شاعرتنا عنوانا جذابا
(قسوة العطر )محفزا للأذهان ، وهو تشخيص لمحسوس ، فالعطر يدرك بالحواس لكنها هنا ألقت عليه صفة من صفات الإنسان وهي القسوة ، ترى كيف يكون العطر قاسياً ؟ أو لا ينبغي أن يكون عنوان الرقة والجمال وحتى الأنوثة .
اختيار موفق دون أدنى شكّ .
القصيدة إجمالاً نفحة وجدانية لكنها أخذت طابع الذاتية وهذا ما يؤكده الاتكاء الواضح على ضمير المتكلم وخصوصا الياء التي تلت حرف الروي التاء .
الدهشة والاستغراب والإعجاب إضافة إلى الحبّ واللوم والرّجاء ، مشاعر تتابعت
وتعانقت لترسم حالة الاضطراب العاطفي الذي أصاب العاشق لمرأى المحبوبة بل لمجرد شم عطرها .
الانفعال واضح و العاطفة ثائرة وقصر العبارات و الميل للتساؤل والتعجب كلها أمور تؤكد ذلك .
أما موسيقا القصيدة ، فالخارجية منها تأتت من تفعيلتي مجزوء الوافر المتماثلتين مفاعلتن ، مفاعلتن
هذا التواتر أشبه بدقات الساعة ، رتم قد يروق للكثيرين ، والوافر بالفعل من البحور الرشيقة السهلة الشجية يعشقه الشعراء لسلاسته وسهولته ، وقد أحسنت شاعرنا خوض عبابه ببراعة دون هنّات .
أما الموسيقا الداخلية فجاءت من مصادر متعددة من التصريع في البيت الأول
( سيدتي ، أوردتي )
ومن حروف الهمس وتحديدا السين والشين ، كذلك من تكرار
السؤال ( لمن أشكو )
ومن تكرار التعجب فما أقساكَ ! فما أقساكِ !
نص ينبض بالموسيقا المحببة بالحركة .
أما لغة الشاعرة فقد امتازت بالفصاحة والوضوح مع الابتعاد عن الحوشي من الألفاظ وغير المألوف وهذا من شأنه جعله قريب التناول من الكثيرين .
لكننا نلمح كلمات انزياحية رمزية مثل : سمت ، بوصلتي ، أشرعتي ، عباب
وهذا جيد ويغني النص .
أما تراكيب النص فجاءت قصيرة رشيقة متينة غلبت عليها الجمل الفعلية التي من شأنها التعبير عن التجدد والحركة .
وقد ظهر الأسلوب الخبري في القسم الأول من النص بشكل طاغ ماعدا
أما أرضاك ...؟ أسلوب إنشائي وهنا التساؤل الذي خرج للاستغراب وعبر أيضا عن حيرة اعترت الحبيب .
أما القسم الثاني من النص أي الأبيات الأخيرة فقد غلب عليها الإنشاء وهذا إن دلّ على شيء فيدل على تعاظم الانفعال ليصل للذروة مع نهاية النص وهذا الحال المنطقي والطبيعي .
من الأساليب الإنشائية :
أعيديها ، ردّي : الطلب المباشر أو الأمر .
ألا رفقا : طلب باستخدام أداة الحض ألا و الأمر الواضح من المصدر رفقا ، وإنما المراد ارفق رفقاً .
لمن أشكو صراعاتي ؟ لمن أشكو خيباتي ؟
تكرار الاستفهام يدل على التوكيد على حجم الشكوى والخيبة ، فالسؤال هنا خرج للالتماس و الاسترحام ، فالشاعر منكسر خائب الرجاء .
ما أقساكَ يا عطر ! وما أقساكِ قاتلتي !
أسلوب التعجب بالصيغة القياسية ما أفعله ! والغاية من التكرار التأكيد على التعجب والاستغراب من قسوة العطر والحبيب والتعبير عن الألم .
جميل هذا التلوين بين الإنشاء والخبر ، لأنه عكس حالة القلق والحيرة التي انتابت الشاعرة .
من الصور نجد
زهر أوردتي : تشبيه إضافي ، بليغ
نسائم عطرك : أيضا تشبيه بليغ إضافي
ليس بخاف عليكم جمالية هذا النوع من التشبيه الذي يضع المشبه والمشبه به على كف المساواة أي ما يشبه الحقيقة .
نسائم انسكبت : استعارة مكنية
نسائم العطر أمطار انسكبت ، حذف المشبه به ( المطر ) وابقى على شيء من لوازمه انسكبت .
تجفاف أوتنتي : استعارة مكنية
وكأن الأوتنة أرض جفت تحتاج من يرويها .
وما المطر إلا الحب الذي حملته نسائم العطر وهو من أحيا القلب الميت الذي لم يكن قد ذاق الحب قبلا .
سرقت تماسكي : تجسيد للمعنوي ليصبح ملموسا محسوسا وهذه جمالية .
زدت شتات أحداقي : كناية عن الذهول
والقلق .
سمت بوصلتي : كناية عن الاتزان .
عباب أشواقي : تشبيه إضافي .
وكأن الأشواق بحر تلاطم موجه وعلى العاشق اجتيازه .
تمزّق حبل أشرعتي : كناية عن الضعف والعجز .
أزلت مداد أوراقي : كناية عن الحزن والبكاء .
ضاعت فيك قافيتي : كناية عن عجز الشعر عن حمل المشاعر .
فما أقساك يا عطر ! سبق أن قلت تشخيص .
وما أقساك فاتنتي !
نلاحظ أن شاعرتنا التي تحدثت منذ البداية بلسان شاعر أو عاشق ، تنهي قصيدتها تاركة الحال على ما هو عليه فلا وصل قد جادت به الحبيبة ولا عطر حظي به ، بل بقي الشوق ملازما للألم .
من الملاحظ تميز الشاعرة في اختيار المصاحبات اللغوية مثل :
زهر أوردتي ، تجفاف أوتنتي ، شتات أحداقي ، سمت بوصلتي
لم تأبه للمحسنات اللفظية والمعنوية وهذا قد يؤخذ عليها ، لكن الشعور وجمال الوصف قد أغنيا عن ذلك .
قصيدة ساحرة الحرف ، فيها الرقة وفيها الجزالة وفيها الحب وتبعاته ، قصيدة تناثرت حروفها محملة بالحب حينا بالألم حينا وبغصّة أبت أن تسمح لها الشاعرة بالزوال ، أتراها أرادت أن تؤكد بالفعل على قسوة العطر ، عفوا بل على قسوة الحب وعذابات المحبين .
لم أجد نقاط ضعف ، لكن بالمقابل الشاعرة لم تتكبد الجهد لتجعل منها أيقونة على سبيل المثال ، أرادتها نفحة عطر ساحرة يدوم مداها تحاكي الوجدان فكان لها ما أرادت .
سعدت كثيرا أحبتي برفقتكم وبرفقة قصيدتنا وهي لرفيقة الدرب فراشة الأدب
المتألقة دكتور مريم غرير .
تقبلي مني هذه الدراسة المتواضعة مع عبير الحب .
ولكم عميد صرحنا مني أرق التحية مع وردة جورية من حلب .
عمتم مساء يا إخوتي وإلى الملتقى كونوا على الموعد .
رنا محمود .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق