للوفاء أوجه
أثقل كاهلها الإملاق وشظف العيش ما اضطرّها للموافقة كارهة على قرار هجرته لدولة أوربية قصد العمل وإرسال المال لإعالة أطفالهما السبعة. هاجر لكن مسعاه تلكّأ إذ مرض فتعذر عليه العمل، ولم يجد بغربته غير أرملة
عطفت عليه وطوقته بكرمها وجمائلها. آوته وأطعمته وتكفلت بمصاريف علاجه حتى شفي وصار يقدم لها بعض الخدمات في شغلها كرد للجميل. ولما طال وضعه السيئ وافق على الزواج منها كحل يبرر وجوده بحياتها ويضمن له إقامة شرعية بذلك البلد.
توالت عليه الرسائل من أم الأولاد تشكو حالاً يعرفه، لكنه استكان للدفء والعيش الهنيء فالتزم عدم الرد. وأمام كثرة الرسائل والعتاب أرسل لها صورة مع زوجته الجديدة مما لم يترك لديها مجالا للشك فيما كان يؤرّقها.
امتهنت كل المهن الوضيعة وعالت أطفالها بما تيسر، فتخرّج من تخرّج من الجامعة وفشل من فشل في الدراسة لكنهم تخطوا أسوأ مراحل الحياة ومروا إلى برّ الأمان.
مرّت السنون وكبر الرجل وصحا ضميره، يعذبه على التفريط في الأمانة. برّح به الشوق فأحسّت زوجته بحزنه فصارت تلحّ عليه بالعودة إلى البلاد خشية أن يموت قبل رؤية فلذاته، لكنه كان يمانع حياء منهم لما اقترفه في حقهم.
تشجع أخيرا وراسل أصغر الأبناء، من تركه رضيعا وصار أبا بدوره . سارع الابن لوالدته ينقل لها الخبر، فهي وحدها من تعبت وخاضت الصعاب من أجلهم، ولها وحدها الحق في اتخاذ قرار السماح له بالعودة لحياتهم من عدمها نيابة عنهم مجتمعين. أمرته بدعوة إخوته لاجتماع لمناقشة الموضوع. ولما حضروا ووقفوا على الخبر رفضوه جميعا.
رفضوا رجوع من تخلّى عنهم وهم في أضعف حالاتهم وأوج احتياجهم المادي والمعنوي له حتى أن أصغرهم لم ينطق يوما كلمة أبي ولا يعرف معناها. تركهم يغرقون في لجج الحياة لولا حمى امرأة رغم ضعفها عظيمة. انتشلتهم بكلّ قواها من مستنقع ضياع وشتات متربص بهم وبها، ونجحت. سارت بهم إلى برّ الأمان، وها هم نساء ورجالا يؤدون دورهم في الحياة كأفضل أمهات وآباء ومواطنين صالحين.
قرّ قرارهم على رفض الغريب ومنعه الولوج لحياتهم الهادئة، فأكبرت الأم فيهم هذا الوفاء والاعتراف بجميلها، لكنها أرادت أن تغرس فيهم كريم الشمائل والتنزّه عن الأحقاد والضغائن، فوقفت وسطهم تذكرهم بآية عظيمة من القرآن الكريم يوصي فيها الله ببر الوالدين دون شروط ولا استثناءات. أوصى سبحانه الأبناء بالآباء ولم يوصي الآباء بالأبناء، لغريزية المحبة لدى الآباء إلا من شذّ عن الفطرة السليمة. وحكمت على قرارهم بالشطط لأنهم في موقف قوة وهو في موقف ضعف وكِبر. فما حدث لهم درس في الحياة، وعودة والدهم اختبار أوصتهم ألا يسقطوا فيه. لاحظت ارتياح أولادها بقرارها الحكيم وبكاء البنات تأثرا.
قرّرت أن يكون الاستقبال ببيتها الذي هو بيته، لكن بعد أن غادرته. فعودته لأجلهم وليست لأجلها.
زهرة يبرم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق