الجمعة، 20 مارس 2020

دراسة لقصيدة الشاعر غسان منصور وعدت لحضنك منكفئ بقلم سيدة النقد والتحليل رنا محمود

دراسة لقصيدة الشّاعر غسّان منصور 
( وعدت لحضنك منكفئ ) 

وعُدْتُ لحضنك منكفئ
==================
ظننت البعد سينسنيها
وشوقي بالنوى 
سينطفئ ..
فنأيت عنها 
ونسيت أنها
في عيني 
تختبئ ..
جادلت قلبي بكبريائي
فكان قلبي 
المجترئ ..
هذا الشقي 
ككأس خمر
كلما سكبته 
يمتلئ ..
فاتنتي أنتِ 
لا أقوى هجرك
وروحي بروحك 
تجتزئ ..
أغيب وأنأى 
ولكن لقربك
ليعود شوقي 
ويبتدئ ..
ذا الكبرياء 
كسرته طوعا
وعدت لحضنك 
منكفئ ..

غسان منصور

مهما قرأنا في أغراض الشعر ومهما جلنا بين المدائح والمفاخر والمراثي ولوحات الوصف يبقى للغزل سحر عجيب يجمع الحب والشوق والألم والخير والوعيد .
رغم معاناة العاشق يعود صاغرا لحضن من أحب .
سعيدة وأنا أعود إليكم بقصيدة من روائع شاعرنا السوري غسان منصور شاعر الحب والرقة والإحساس .
ليست المرة التي نقف فيها عند تجربة شعر النثر التي تستهوي شاعرنا ويجيد خوض غمارها ببراعة وعفوية قد لا تتسنى للبعض .
نفحة وجدانية تعبر عن تجربة ذاتية لعل كثيرا من العشاق قد خاضوها لكن تبقى الأساليب والأدوات من يميز شاعرا عن آخر .
غسان منصور أراد أن يباشرنا بعنوان يعبر عن العودة بملء الإرادة والرغبة بقوله ( عدت إلى حضنك منكفئ ) لعل الكاف هنا قد تثير التساؤلات قد يظن القارئ للوهلة الأولى انها لأم لكن سرعان ما يكتشف أنه يخاطب محبوبة حاول نسيانها بالبعد .
كان بإمكانه قصر العنوان على( عدت إلى حضنك ) ، لكنّه أراد تبيان الحال لما فيها من رغبةٍ لاحتواء هذا الحضن له بالكامل 
كطفلٍ يتقوقع على نفسه في حضن أمه .
قد توحي بالانكسار أو الرّضوخ وحتى التماس الدّفء والحبّ وربما الأمان أو الحنان ...
و هنا يمكن جمال العنوان في كثرة دلالاته .
عاطفةٌ وجدانيّة ذاتيّة جيّاشة صادقة تلوّنت بين حبٍّ وألمٍ وشوقٍ... 
لاحظوا عبارة (و شوقي بالنّوى سينطفئ )
في غاية الجمال : فالشّاعر يكابد نار الشّوق وهو قريبٌ وعادةً يعبّر الشّعراء عن اضطرام نار الشّوق بسبب النّوى وقد ابتعد ظنّا منه أن النّار ستنطفئ . لكن هيهات 
وكذلك نجد الأمر مشابها في قوله 
( أغيب وأنأى لكن لقربك ) 
وهنا نلمح صراعا بين رغبة للانعتاق وعجز عن ذلك وهذا ما أكده حرف الاستدراك لكن .
كما يصرح بصراع بينه وبين قلبه 
( جادلت قلبي ... هذا الشقي .. )
إذا نحن أمام ثورة مشاعر تحتدم في نفس عاشقة مولعة .
ترفع القبعة بالفعل لكمّ الإحساس المرهف الذي انساب من يراع شاعرنا طواعية .
رغم عدم مبالاة الشاعر بالأوزان العروضيّة وقد أكد ذلك مرارا إلا أنّ الموسيقا الخارجيّة باديةٌ للعيان من خلال التزامه الهمزة كرويٍّ إن صحّ التّعبير كقفل لمقاطع القصيدة السبعة ضمن كلمات تشابهت في الوزن .
وقد وفّق باختيار الهمزة لرقّتها ولتعبيرها عن آهات المحب .
ومن معالم الموسيقا الدّاخلية شيوع حروف الهمس بكثرة وتحديدا السين والشين .
كما نلمح حسن التقسيم وواضح أنه عفويّ في قوله : 
فنأيت عنها ، ونسيت أنها
كما أفاد استخدامه المترادفات و المتناقضات أو الطّباق في تعزيز المعنى وفي إضفاء جرسٍ موسيقيّ يشابه ما يضفيه حسن التّقسيم . 
( أغيب ، وأنأى ) ( سكبته ، يمتلئ )
(روحي ، بروحك ) أيضا هذا التّشابه جمّل الموسيقا الدّاخلية .
لشاعرنا أسلوب يتفرّد به ألا وهو السّهل الممتنع ، فمن يقرأ له يظن أن بإمكانه مجاراته بسهولة لكنه سيدرك صعوبة الأمر 
فنحن أمام حرف مشرق عميق الدلالة مكتنز بالمشاعر .
من الملاحظ استحضار الشاعر لمفردات الحقل المعجمي المعبرة عن الشوق ( البعد ، شوقي ، النوى ، نأيت ، هجرك ، غبت ، قربك ، عدت ، سينسينيها ..)
وهذا جيد طبعا لأنه يخدم فكرة النص 
والوحدة العضوية في النص ليست خافية على أحد فالفكرة كبذرة تغرس في بداية النص لتنبت وتورق وتزهر بل تثمر في نهايته .
قد يلام شاعرنا على تنحيته الاسلوب الإنشائي ، لكن من يتتبع الأسلوب الخبري يجد براعة الشاعر في توصيف مشاعره والتعبير عنها لدرجة يجعل الكل ينفعل معه وكأنه يسرد لنا حكاية هذا التعلق 
فالنص أشبه بقصة شعرية .
النص الذي بين أيدينا على قصره نوعا ما لكنه غني بالجمال . والخيال هنا وإن بدا مطروقا إلا أنه وظف ببراعة ليرتقي بالحالة الشعورية ويخدم مرامي الشاعر .
شوقي سينطفئ : استعارة مكنية 
جمالها في تجسيد المعنوي 
في عيني تختبئ : كناية عن موصوف وهو صورة المحبوبة وبلاغتها في دلالتها على شدة التعلق فعدم غياب صورة احدهم من بالك ومن عينك ما هو إلا دليل على احتلاله لك وامتلاكك .
جادلت قلبي : استعارة مكنية غرضها التشخيص .
هذا الشقي : استعارة تصريحية والمراد هنا القلب .
هذا الشقي ككأس خمر كلما سكبته يمتلئ : تشبيه تام الأركان 
الصورة هنا مبتكرة وجميلة وقوية وهي تدل على تجدد الحب والشوق يوما بعد يوم .
وتدل على الصراع العاطفي بين محاولات للنسيان وفشل .
وهذا ما أكده الشاعر صراحة في المقطع الذي يليه ( فاتنتي أنت لا أقوى هجرك 
وروحي بروحك تجتزئ )
فروح الشاعر بعض روح المحبوبة .
يعود شوق و يبتدئ : تشخيص 
ذا الكبرياء كسرته طوعا : استعارة مكنية وهنا أفادت التجسيد .
أشرت لما مر من صنعة بديعية سابقا .
أجاد شاعرنا ببراعته المعهودة إحكام دائرة ظنونه التي بدأ بها القصيدة ( ظننت البعد سينسينيها ) باليقين التام وبالعودة طواعية وكسر غرور الكبرياء بقيد الأحضان ( ذا الكبرياء / كسرته طوعا / وعدت لحضنك منكفئ )
وكأني بغسان منصور يقول لا كبرياء في الحب ولا غرور أيها الرجال الشرقيون .
فلنكسر كبرياء الشرقي فينا ولننعم بدفء الحب ٍ ألا ( ما أحلى الرجوع إليه )
وضعت قصيدتكم تحت المجهر شاعرنا وسررت كثيرا بما رأيت .
ترى هل وصلتكم الصورة أحبتي .
تحيتي وقوافل الجوري للحرف الساحر 
لكم شاعرنا د.غسان منصور .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق