الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019

دراسة لقصيدة الشاعر حسن عبد الحميد حسين بقلم المبدعة... رنا محمود

دراسة لقصيدة الشاعر 
حسن عبد الحميد حسين 

(...صداقةُ الياسمين...))
*************************
بيني وبين الياسمين صداقةٌ 
مذ كنتُ طفلاً ما أجلَّ وأروعا!
نسماتُها العطراءُ تضحي عليلةً 
فأبلُّ من عِللٍ حللنَ الأضلعا
كم جلتُ فيها الطَّرفَ سكراناً وكم 
أوحت إلى فكري القريضَ فأبدعا
ويتيه فيها الفكرُ حتى إخالها 
دربَ المجرَّة بالنُّجوم ترصّعا
تهتزُّ من خفق الرِّياح كأنَّها
قلبي المتيَّمُ راعشاً متلوِّعا
وإذا الزهورُ تساقطت منها فقد 
سكبت عيوني مثلهنَّ الأدمعا
إن كنَّ أزهارُ السَّماء مضيئةً 
للسّاري درباً بالظّلام تلفَّعا
فالقُبَّةُ الخضراءُ نورٌ عاطرٌ
طيَّ المشاعر والخيال تشعشعا
من هام بالعنقود كأسَ مُدامةٍ 
فبياني من خمر الجمال تجرَّعا
إن متُّ يوماً فاجعلوا من ثوبها 
كفني! لأبعثَ بالعبير مُضوَّعا
........................................

نص وجداني ذاتي الملامح ارتدى ثوب الأصالة والتزم الروي والقافية وتهادى على موج الكامل ذي التموجات المتوازية في علوها وفي انحدارها .
نحن أمام نص لشاعر كبير عرف بنزعته الصوفية و إبحاره في فضاء الروحانيات بغموض قد لا يتثنى للكثيرين طرق بابه .
لكنني اخترت من قصائده أسلسها لغة وأقربها إلى يد الفكر وأكثرها تغلغلا في مسامات المشاعر .
نصنا هذا ينتمي للشعر العمودي الذي يلتزم نظام الشطرين والقافية ووحدة البيت .
وهو يتبع الكلاسيكية في حلته الخارجية بينما يعبق بأنفاس رومانسية تغالي في إبراز المشاعر واللجوء للطبيعة .
العنوان : صداقة الياسمين تركيب خبري إضافي ( مبتدأ ومضاف إليه ) لم يذكر الخبر ولعل هذا سببه دفع المتلقي للتفكير 
بالخبر وجعله في حالة ترقب ، والعنوان مناسب على اعتبار أن النص في وصف هذه الزهرة وظلالها على النفس فهي تبرئ من أسقام في الفؤاد ودلالاتها المعنوية كالصفاء والنقاء وما شابه ...
اختيار موفق شاعرنا .
العاطفة : ذاتية لكنها تندرج ضمن إطار الإنسانية التي تحيي الحجر واليباب وتؤنسن حتى الجبال و النبات .
من الياسمين طرز وشاح قصيدته و شفى عليل حروفه وفؤاده ، و من صداقتهما ولد الإلهام من مخاض المشاعر .
تضافر الإعجاب مع الدّهشة مع الألم والإكبار لنور الهدى محمد عليه صلوات الله وسلامه في أبياته الأخيرة لتكتمل اللوحة وصفا وحسا وروحاً تتوق لملاقاة الخالق .
الموسيقا : 
أشرت إلى أن شاعرنا امتطى صهوة أمواج الكامل وصل بسلام لنهاية ميدانه وهو شاعر له باع طويل في هذا النمط الشعري ، لكن قاربه تأرجح في عدة مواضع دون أن تخل بالجرس الموسيقي
الساحر على السمع .
( تضحي عليلة ،حتى إخالها ، للساري درباً ، فبياني إن )
استوقفني صرفه مالا ينصرف ( سكراناً ) 
اختيار موفق للرّوي العين المفتوحة المشبعة ، والتي أعقبها بألف الإطلاق التي تعطي أفقا واسعا للانفعال من دهشة وافتخار كذلك بالنسبة للفظ والمعنى .
السّمات الفنيّة لأسلوب الشّاعر : 
اللغة : شاعرنا كما قلت خبير في اللغة ومفرداتها وقد أجاد انتقاء اللفظ الذي يسري في الأذهان ويكفل لقصيدته البقاء ، الفصاحة والوضوح والبعد عن الحوشيّ من الألفاظ من السّمات الظّاهرة للعيان .
من الألفاظ التي قد تبدو غير مألوفة : أبلّ 
والمراد أبرأ من العلل أو المرض .
أما التراكيب فغلب عليها الأسلوب الخبري
فالإنشاء اقتصر على
أسلوب التعجب : ما أجلّ وأروعا ! 
وعلى الأمر : فاجعلوا 
اتّكأ على أسلوب الشرط ، وفيه تحفيز لمعرفة الجواب المرتبط بالشرط وفيه خدمة للمعنى من خلال المقارنة الساحرة 
نلمحه في : 
إن كنّ أزهار السماء مضيئة .. فالقبّة الخضراء نور عاطر ، فالجواب فيه إبراز لعظمة الرسالة النبوية وعظمة حاملها .
أما بالنسبة للبيان فنجد الصّور الآتية : 
بيني وبين الياسمين صداقة : تشخيص 
كم جُلت فيها الطّرف : كناية عن صفة الإعجاب .
إخالها درب المجرّة : تشبيه بليغ يفيد المبالغة في الوصف والتّأثير وهذا جميل .

تهتزُّ من خفق الرّياح كأنّها 
قلبي المتيّم راعشاً متلوّعا ( تشبيه تمثيلي أفاد توضيح المعنى وإظهار المشاعر من خلال المقارنة بين صورتين ) 
وكذلك نجد التّشبيه التّمثيليّ في البيت الذي يليه : 
وإذا الزّهور تساقطت منها فقد 
سكبت عيوني مثلهن الأدمعا 
فتساقطُ زهورِ الياسمين من العريشة كتساقطِ الدّموع من العيون .
ونلاحظ أن الغاية إظهار مشاعر الحزن إضافة لتوضيح المعنى .
أزهار السّماء : كناية عن موصوف النجوم
درباً تلفّعا : استعارة مكنية جماليتها في تشخيص الجماد .
القبة الخضراء نور عاطر : تشبيه بليغ 
القبة الخضراء : كناية عن المسجد النبوي الشريف وبالتأكيد التشبيه بالنور رائع لأنها ضمت هادي البشرية ونورها .
طي المشاعر : تجسيد 
الخيال تشعشع : استعارة مكنية 
العنقود : كناية عن موصوف الخمرة 
خمر الجمال : تشبيه بليغ إضافي ، غايته المبالغة في إظهار اثر الجمال .
بياني تجرّعا : استعارة مكنية تفيد التشخيص .
من ثوبها : الهاء عائدة على الياسمين
وهنا تشخيص للياسمين ، والصورة جميلة .
ثوبها كفني : تشبيه بليغ .
حللن الأضلعا : أراد عللاً اصابت الفؤاد 
إذا نحن أمام كناية عن موصوف وهو القلب .
لم يأبه شاعرنا للمحسنات اللفظية والمعنوية وقد يؤخذ عليه ذلك ، لكن عذره عاطفة صادقة وحرف ساحر .
أخيرا لا يسعنا إلا أن نقول : إن صداقة الياسمين تمخّض عنها النّقاء والنّور وأكرم به من نور ! ومن هدي ! أشار إليه شاعرنا في أبياته الأخيرة . نصٌّ قد يبدو مجرد نصٍّ وصفيّ للياسمين لكنّه في الحقيقة حمل أبعاداً كثيرة ، و أطيافا من المشاعر سمت حتى الرّوحانيّة في نظرةٍ بعيدة واستشرافٍ للحظةِ الموت والبعث علّ الأعمال الحسنة تكون عبقا يلازمنا كعبق الياسمين .
قصيدة ماتعة ترصد خبايا نفس معذبة ومؤمنة وعاشقة للجمال والنور بحرف أنيق مشرق الدلالة وصور ندر فيها التجديد لكنها وافقت المعنى وأثرته
وهذا هو المطلوب .
ليراعكم منا التقدير شاعرنا الكبير 
تقبلوا مني هذه الدراسة المتواضعة .
وكل عام وأنتم بخير . 
شكرا لراعي صرحنا د.غسان منصور 
وشكرا لمتابعتكم أحبتنا عشاق الأدب والجمال والنقد .

رنا محمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق